“ولو كان بهم خصاصة”، إيثار من وحي واقعنا الحالي
ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كنت أقف تحت شجرة التين التي انتصبت، ومدت أغصانها كمظلة كبيرة، أحتمي من حرارة الشمس الملتهبة،
منتظراً صديقي عامر، لنترافق معاً إلى مخيم قريب نزور بيت صديق لنا كان قد نزح حديثاً.
لفتت انتباهي ثلاث نساء، اثنتان منهن في العقد الرابع، والثالثة في العشرينات من العمر تقريباً،
أما الأخيرة… فقد حملت بيدها كيساً أبيضاً، من الواضح أن محتوياته كانت “سندويش”،
وبصعوبة بالغة تجاوزن زحمة الشارع، وكسارقين خائفين، ركضن مسرعات لتخطي السيارات الكثيرة،
على بعد ليس بكثير وقفن بقربي تحت الشجرة، يلتقطن أنفاسهن، وكنَّ يتصببن عرقاً،
قالت إحداهن بعد أن أمسكت بيد أخرى مخاطبة ذات العشرين عاماً:
أنا وخالتك أم أحمد سنذهب لإحضار نتيجة التحليل، وحين نعود سنذهب ونجلس في مكان لنأكل ونرتاح، ريثما يأتي “السرفيس” ونعود للمخيم، فتجيبها وقد بدا التعب واضحاً عليها:
لا تتأخرا يا أمي، فقد تعبت وجعت جداً، لولا هذه التحاليل التي طلبها الطبيب، كنت تناولت الطعام قبل مجيئنا لكنني شعرت بالجوع يتسلل إلى معدتي كوحش كاسر لا يعرف الرحمة.
حين كنت أراها تنقِّل نظرها من ساعتها إلى كيس “السندويش”، بدأت أتحسس بطني وكأني أُصِبتُ بعدوى الجوع!!!
ارتفعت الشمس لتصل إلى وسط السماء، وبدأت تنفث جمراتها على الأرض،
تأخَّر صديقي، كما تأخرت الأم مع الخالة أم أحمد…
من بين زحام الشارع المكتظ بالسيارات والناس، ظهرت امرأة عجوز، رثة الثياب، وقد رسمت على محياها أوجاع سنين طويلة، واحتلت عينيها نظرات انكسار موجعة،
كانت تجر بيدها طفلاً لم يكن أحسن منها حالاً، قد غُرِزَ بجسده الطري الصغير براثن الظلم والشقاء.
اقتربت من الفتاة، وقفت برهة، ثم تقدمت منها بعد أن أشار لها الطفل بيده التي صبغتها حرارة الشمس باللون الأسمر، وقالت بصوتٍ كَسَرَهُ جبروت الذّل والحاجة:
الجوع كافر يا ابنتي، وهذا ابن ابني الذي تركته مدفوناً تحت ركام بيتنا، وأنا كما ترين امرأة عجوز لا أقوى على العمل،
أنا يا ابنتي أتحمّل قسوة الجوع لكن هذا الطفل لا يستطيع، قاطعَت الفتاة حديث العجوز وفتحت الكيس ثم أخرجت “سندويشة” وقدمتها للطفل، ابتسمت له وقبلته ثم نظرت للعجوز وقالت:
والله لو كانوا “السندويشات”البقية لي لكنت أعطيتك واحدة، لكنها ليست لي، وأنا أعطيت حفيدك حصتي منها.
ابتسمت العجوز وقالت:
لا ياابنتي… لا أريدها، يكفيني أن هذا الصغير يأكل، ومضت وهي تدعو لها بجبر الخاطر،
عادت الامرأتان اللتان اعترفتا بتأخيرهما وذلك بسبب تأخر نتيجة التحليل،
قالت الأم:
هيا نجلس في الحديقة لنأكل، لقد نال منا الجوع، وأنت أكثر من جاع بيننا فلم تأكلي شيئا منذ البارحة، قالت الفتاة بعد أن ابتسمت بسمة خنقتها عَبْرة أخفتها بألمٍ كمن يطفئ ناراً بكفّيه:لقد أكلْت، نعم أكلت حين تأخرتما بالعودة، وأنا الآن لست جائعة يا أمي لقد شبعْت، كم كانت “السندويشة” لذيذة…!!