ها هي غزالة ترتدي معطفها البنّي، وتلف رأسها بشالها الأبيض.. هدية بشرى لها، التي مازالت تعبق فيه أشواقها

0 122

سنعرف اليوم إلى أين تمضي الحياة بغزالة بعد كل ما حدث..

ريما خطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق

دخلت غزالة الغرفة الكبيرة، حيث كان جميع أهلها ينتظرونها لتوديعها قبل السفر، وقفت في الباب، وتأملتهم واحداً، واحداً، ووقف نظرها على أم جابر للحظات، وكأنها تخاطبها، بذبذبات تثريب قديمة، دفينة في أعماقها، تمنت البوح بها، لكنها آثرت كتمان ذلك كي لا تصنع شرخاً جديداً بينها وبينهم، اقتربت منها، قبلت جبينها، وودعتها كما ودعت إخوتها، وعائلاتهم، وطبعت على وجوه أطفالهم قبلاتها التي لم تخلُ يوماً من حبها الكبير لهم، ولم تتأثر هذه المحبة بكل ما حدث.
خرجت دون أن تذرف دموع الوداع، ربما لأنها أنفقت كل ما تكنّه لما يجمعها بهم، أو ربما لأنها كبرت في سنين قليلة مئات السنين، وشاخت العبرات، لدرجة أنها باتت تتكاسل على تأدية واجباتها.
ركبت السيارة التي ستقلها ومدير الشبكة وابنه الأستاذ أحمد ومديرة التحرير وزوجها إلى تركيا، إلى استنبول، حيث موعدها المبرم مع مريض في مهب مجهول، في بلاد غريبة.
كان حفل تكريم كبير، باذخ، ذي تكاليف باهظة، واضحة على القاعة الكبيرة، وطاولات الطعام والمنصة المرتقية بفره ورفاهية كبيرين.
بثقة، وثبات، اعتلت غزالة المنصة، واستلمت الجائزة، شكرت القائمين على هذا العمل، والراعين له، بكلمات حبلى بالشكر والامتنان، والمترجم يقف بجانبها يترجم كلامها للحضور الأتراك والأجانب.
حان الوقت المنتظر، وآن الأوان لإطلاق سراح المشاعر المقيدة بقيود من غياب أليم، هي دقائق تفصل غزالة عن لقائها بحبيبها، مسافة الطريق الذي سيحملها على أجنحة الشوق والحنين، لروحها التي هجرت جسدها قسراً، ما أبعد المسافات رغم قصرها، وما أطول الوقت إذا كان لنا خلفه مواعيد لا زمان محدد لها ولا مكان، عجلات السيارة تلف بسرعة شديدة، كسرعة الأشجان في اجتياحاتها لحقول أفراحنا المترامية على سفوح أحلامنا البريئة في زمان علقت فيه جميع الأحلام.
كانت تتمنى لو أن السيد مصعب قريبِ من استنبول، لكان هو من قام بهذه المهمة، ورافقها للمشفى، لكنها تعرف أن مكان إقامته بعيد جداً، وأن أمر مجيئه سيكون مكلفاً للغاية، لذلك لم تخبره بأمر مرافقة ابن المدير لها، للبحث عن حبيبها الضائع في تلافيف السقم والغربة، فهي تعرف أنه لن يقبل بأن يكون الأستاذ أحمد معها في هذا الأمر، وهو يعلم بملاحقته لغزالة، ورغبته القوية بالزواج منها، وكي لا يرهق نفسه ويتكلف، أخفت عنه هذا الأمر، فوضعه المادي لا يسمح له بذلك.
وتذكرت بداية عملها في الشبكة وتعرفها عليه، كيف أنه أرسل لها جهاز حاسوب، ومجلدات مهمة تفيدها في عملها برغم وضعه المادي السيء، فهو كان قد قطع عهداً على نفسه أن يبقى بجانبها، ويساندها بعملها حتى تصل لقمم النجاح، وتحقق آمالها، وتثبت ذاتها، لأنه تعاطف معها، وتأثر بقصتها، التي بات مطَّلعاً على جميع تفاصيلها، وحتى علاقتها بحبيبها جاسم، لم تخفِ عنه أمرها، فهي كانت طوال فترة علاقتها به بحاجة لمن تتحدث معه بأمر قصة حبها التي بقيت حبيسة القلوب الثلاثة بعد الله، قلبها، وقلب جاسم، وقلب السيد مصعب، الذي بارك هذه العلاقة بتمنيات عظيمة بالنجاح، وبنهاية جميلة تكون في القفص الذهبي، الذي سيفرح قلب غزالة المشبع بأحزان معتقة.
من بين كل انشغالاتها، وتوترها الشديد، واضطرابها الواضح، لفتت انتباهها أغصان الزيزفون الصغيرة المثقلة بزهراتها الجميلة، والتي كانت تطل من تحت قماش أثاث السيارة الأمامي، والذي حجبها عنها جلوس زوج مديرة التحرير طوال الطريق.
تلك الأغصان الخضراء المزينة بصفرة زهراتها، دقت أبواب الماضي القريب، وهي في طريقها للقاء الماضي البعيد، الذي لم تستطع إغراءات وحب وإعجاب ابن المدير وابن عمه الأستاذ تامر بنفيه عن مخدعه في صميم القلب والروح، لقد فشلت جميع عروض المدير ذي المنصب المرموق من سرقة غزالة من عالم العشق السرمدي لحبيب القلب جاسم، ولم تفلح طيبة وهيبة ودماثة الأستاذ تامر من تجريدها من حب جاسم المحبوب الحاضر رغم غيابه الطويل، ومسكنه البعيد في غربة السقم والعلاج!
تذكرَت ذلك اللقاء الأخير، الذي كان في مكتبها، حين دخل الأستاذ تامر ليهنئها بفوزها بالمرتبة الأولى في مسابقة التصميم، حيث طلب بعضاً من الوقت ليفاتحها بأمر مهم، وقد رحبت بذلك، لأنها تراه رجلاً محترماً، كريم الأخلاق، وفيه شيء خفي لطيف محبب، ولم يسئ يوماً لها، بل على العكس كانت أغصان الزيزفون، التي لم تترك غرفة مكتبها يوماً بعد أن تعرفت عليه، تشهد له بحسن المعاملة وجميلها.
في ذلك اليوم أخبرها أنه يشعر نحوها بانجذاب شديد، وأنه معجب بها، وقد سمح لنفسه بالتجرؤ وإخبارها برغبته بخطبتها رسمياً إذا وجد طلبه لديها قبولاً، وأنه برغم معرفته بأمر عزفها عن الزواج، والذي أخبرته به يوم فاتحها برغبة ابن المدير بالزواج منها، إلا أنه لم يستطع منع نفسه من مصارحتها بإعجابه بها.

قد يعجبك ايضا