الولادة الجديدة
قصة مستوحات من حكاية واقعية حصلت في تسعينيات القرن الماضي.
ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كبريقِ وجهِ نهرٍ ترقرق تحت أشعة شمسِ يومٍ ربيعي، كانت نجوى ترقص فرحة، حين كان يسأل المعلم التلاميذ عن أحلامهم، ومن سيكمل تعليمه، كان الأولاد يجيبون ببراءة الطفولة، فمنهم من كان يريد أن يصبح محامياً يدافع عن المظلومين، ومنهم من سيكون طياراً ليدافع عن الوطن ويفديه بدمائه، وكان للطّبّ مكان بين أحلام الطفولة تلك، فهناك من يحلم بتخفيف آلام المرضى وعلاجهم.
نجوى التلميذة الوحيدة التي كانت ترفع يدها بحماس، وتقول بفخر وفرح:
- أنا سأكمل دراستي وأصبح معلمة رسم…
كان المعلم الوافد من المدينة لتدريس أطفال القرية، يعجب من صمت باقي التلميذات، إذ أن نجوى، فقط من بينهن هي من تحلم كباقي التلاميذ!…
في زوايا القلب وحنايا الروح اختبأ حلمها، هارباً من مفاهيم و معتقدات ظالمة، ترسخت في أذهان أهل القرية، كانت تخفيه وترعاه كأم رؤوم، تخشى عليه من أيدي الغادرين،
كيلا تصل إليه وتغتاله، كيف لا وهو حلم حياتها، وسر سعادتها المسروقة من بين فكي مجتمع علا فيه صوت التسلط، وتفشى فيه هضم الحقوق!!..
إذ أن فكرة تعليم الفتاة ومتابعة دراستها مرفوضة قطعياً، اعتاد أهل القرية أن يستيقظوا باكرا مع بزوغ الضوء، ويقصدون الأرض مصدر رزقهم وعشقهم المقدس.
فكانوا يقضون معظم يومهم في الأرض، يزرعون ويرعون مزروعاتهم مصدر قوتهم.
كانت نجوى تبقى في البيت مع أمها وتقوم بمساعدتها في أعماله، وتجهز الطعام قبل عودة الأب والأخوة من البستان.
نجوى مدللة الأب الجميلة، وصغرى بناته السبعة، وابنيه حاتم ومصطفى، فكانت مكانتها في نفس الأب واسطتها لكسر حصار الجهل الذي فرض على جميع بنات القرية، أما الأخوات الستة فقد رضخن للأمر الواقع، واستسلمن لقوانين القرية التي قتلت فيهن وبجميع إناثها، السعي لمتابعة دراستهن!!
فقد كنّ يخشين أن يتحدث عنهن أهل القرية كما كانوا يتحدثون عن غادة ابنة مختار القرية، وصباح ابنة زمرد الأرملة التي ذاع صيت شخصيتها القوية في الأرجاء.
قصة متابعة دراستهن في الناحية التي تبعد أربعة كيلو مترات عن القرية، كانت حديث الجميع، كيف لصبيتين في مقتبل العمر أن تقطعا هذه المسافة يومياً سيراً على الأقدام!!.
أما لباس المدرسة(بدلة الفتوة) الخضراء، والتي كانت تخالف الأعراف والحشمة في معتقد أهل القرية، فهذا من باب جلب العار !!.
فيصب جام اللوم والغضب على أهل البنتين، فالجارة تنصح أم صباح:
- يا أختي، البنت خلقت للزواج وإنجاب الأولاد فقط،
والمكوث في بيتها ورعاية زوجها وأطفالها، لماذا ترسلين ابنتك للمدرسة، ألا تخافين عليها من الطريق الطويلة التي تقطعها كل يوم؟
(والله ياأختي مافي أمان).
وهذا أخو المختار يلومه على فعلته النكراء، بسماحه لغادة بمتابعة دراستها: - ياأخي لقد لاكت سمعتنا الألسنة، ألا تسمع مايقوله الناس عنا؟
ابنتك عرضنا، ألا تخشى على عرضنا أن يستباح؟!!
لم يسبق لأحد قبلك، أن سمح لابنته بالدراسة، جميع بنات القرية يدرسن المرحلة الابتدائية فقط، حتى أن بعضهن لا تذهب للمدرسة نهائيا، ابنتك تعرف القراءة والكتابة وتقرأ (القرآن) وهذا يكفي،
البنت عورة وشرف أهلها وأنت تعرض شرفنا للخطر، كخيانة الوطن، وانتهاك الشرف، واغتصاب الأرض، كانت جريمة من يقبل أن تتابع ابنته تعليمها، في أعراف أهل القرية!!
مرت عطلة الصيف طويلة على نجوى، فهي تنتظر قدوم العام الدراسي بفارغ الصبر، لتبدأ بالتسجيل في المدرسة الإعدادية في الناحية، فلا يوجد في القرية إلا مدرسة وحيدة لتعليم المرحلة الابتدائية.
قرار الأب برفض تسجيل نجوى في المدرسة، كان صدمة كادت أن تقتلها، ثارت ثورة غضب جنوني بين نجوى والأهل: - لماذا لا؟!!
ألم تعدني أن أتابع دراستي؟
ألم نتفق أن تساعدني في تحقيق حلمي بالتعليم؟
ماذا جرى، لماذا غيرت رأيك؟!
فيهب كالسهم القادم من شقوق أهل الكهف، الأخ الأكبر حاتم: - اصمتي، أتريدين أن تسببي لنا فضيحة؟!
أتريدين أن تشوهي سمعتنا؟!
كما فعلت ابنة زمرد وابنة المختار!!
فيؤكد على كلامه الأخ الأصغر، مصطفى: - كفي عن الكلام في هذا الأمر، أقتلك ولا أسمح لك بفعل هذا، البارحة كنت مع الشباب على بيدر الحنطة، وكان كل الحديث عن صاحبتي البدلة الخضراء، تنهيدة الأب تسكت الجميع، يقترب من نجوى، ويقول بحنانه المعتاد:
- يابنتي لا تلومينا،أنا أعرف أنك الآن مصدومة لكن،!!!
كانت ليلة قاسية، خاوية من كل لطف، موحشة بعد قرار الأهل، لكن حب الحياة المتجذر في روح نجوى، وآمالها المنقوشة في القلب، وقصور الأحلام المشيدة من عزم وإصرار، أبت أن تخضع لحكم جائر وظالم عليها بالإعدام دونما جرم.
في صباح اليوم التالي فوجئ الأهل بنجوى تجلس في أرض الديار، تقرأ في أحد كتب أخيها مصطفى، الذي أنهى دراسة الصف التاسع العام الماضي، أغلقت الكتاب وجاوبت على الأسئلة التي جعلت من العيون تتسع وترتسم عليها علامات تعجب: - سأدرس في البيت، لن أذهب لمدرسة الناحية، ولن أرتدي (بدلة الفتوة)،
تقترب من الأب وتتابع: - أبي روحي معلقة بأحلام كبرت معي وكبرت معها، أبي لا تقتلوا أحلامي وتقتلوني، أنا أحب الحياة.
ابتسم الأب ولمعت بعينيه نظرة حب وفخر، وقال وهو يهم بحمل الفأس و المعول مخاطبا مصطفى وحاتم: - هيا يا أولاد لقد تأخرنا عن البستان، يجب أن نسقي الزرع اليوم، لا أريد لزرعي أن يموت عطشاً، أريد محصولاً وفيراً.