من اعتاد على الخيبات في كل سعادة وحلم سيقف طويلاً أمام كل أمل متردداً بفتح أبواب قلبه خوفاً من صدمة جديدة

0 177

سنعرف اليوم ماذا تخبئ الحياة لغزالة خلف أبواب التمني والرجاء بعد معرفتها بمرض جاسم………..

ريما خطاب|شبكة مراسلي ريف دمشق

عندما يعود الموتى من فناء الوجود لا يسعنا سوى الترحيب بهم، والاحتفاء بعودتهم غير المرجوة، ضاربين بكل إساءاتهم لنا بعرض الحائط، مندفعين برضا وكرم لمنحهم فرصة جديدة لجبر ما كسروا، مع أننا نعلم حتمية عدم استطاعتهم لفعل ذلك، لكنها طباعنا المجبولة عليها قلوبنا الشفافة، من طيبة ونقاء وصفاء سريرة، وربما هذه الصفات ليست لهذا الزمان، أو ربما هي أكبر من أولئك الذين نغدق عليهم بها، كمن يصب الماء في إناء مثقوب! في مكتب ابن مدير الشبكة الذي لم يتوقف يوماً عن مطاردة غزالة بنظرات الاشتهاء والرغبة بالامتلاك، جلست تنتظر مجيئه لتطلب مساعدته بالاتصال بشخص في إدارة مشفى باب الهوى، لتتمكن من السؤال عن الحبيب العائد من عالم الغيب المعروف عنوانه. كانت تستطيع طلب ذلك منه بالاتصال به، لكنها آثرت فعل ذلك في مكتبه لسبب غامض يدفعها دون أن تعلم مكنوناته، ربما غرور الأنثى، الذي راح يصحو من سباته بعد عودة الحبيب من غيابه، أو ربما لتؤثّر على ابن المدير بحضورها الذي يفرض حالة من التيقظ عنده، مع أنه يجهد في محاولة إخفائه، لكنها تصطاده بحدسها الواثق كصياد ماهر أتقن عمله بدقة. ابن المدير ذلك الشاب الثلاثيني المغرور بجماله (الفرنسي) كما يحكى عنه في أروقة مكتب الشبكة، الأستاذ أحمد صاحب العينين الزرقاوين، والجسد الجميل المتناسق، أما شعره الأشقر فكان يضيف له ميزة أخرى تجعل منه شخصاً متعالياً متفاخراً بجماله وعمله في الشبكة. كانت رائحة الزيزفون تنتشر في المكتب، وتوقظ بغزالة ذاكرة الماضي، حيث كانت شجرة الزيزفون تتوسط حاكورة الدار على ساقية الماء، وكانت تحاور أزهارها وأوراقها، وتبوح لها بأشجانها الكثيرة يومياً. دخل ابن المدير مسرعاً وألقى التحية عليها، وهو يجلس على كرسيه، خلف مكتبه الفخم الذي لم يعنِ لغزالة يوماً فراهته أو أثاثه الفاخر. يشعل سيجارته، ويقول: _تفضلي آنستي، قلت لي أنك تريدين أن تتحدثي معي في أمر ضروري. _نعم، أريد ذلك، سمعتك مرة تقول بأنك تعرف العاملين في إدارة مشفى باب الهوى. ينفث دخان سيجارته ببطء، وقد تبسمت نظرته بتفاخر بعد أن استنتج أنها بحاجة لمساعدته، والاستفادة من علاقاته الكثيرة، وربما رأى في ذلك مدخلاً جديداً لفتح موضوع الخطبة مرة أخرى، قال بهدوء مصطنع: _نعم أنا أعرف أكثر من شخص هناك، خيراً… ما حاجتك للمستشفى؟ _ صديقتي… زوجها مريض، وهو يتلقى علاجه هناك، وأريد أن أسدي إليها خدمة بالتوصية به. هذه المرة ينفث دخان السيجارة للأعلى، وكأنه لم ترُقْ له القصة، أو كأنه كان يريد أن تكون حاجتها له أكبر من رقم هاتف شخص ذي منصب في مشفى للحالات الخطرة. _حسناً، على الرحب والسعة… أنت تأمرين، الآن سأرسل لك رقم ابن عمي، وتستطيعين أن تعتمدي عليه بأي شيء. بابتسامة ممتنة، استأذنته بالانصراف، فقال لها وهي تمشي نحو الباب: _سأتصل به لأوصيه بك، كي يقوم بخدمتك، فأنت غالية علينا، وطلباتك أوامر. توقفت، والتفتت إليه وقالت وهي تدرك ما ترمي إليه كلماته: _أشكر لك فضلك هذا، وأنا واثقة بأنك ستقاسمني ثواب هذه الخدمة الإنسانية لصديقتي المسكينة. وخرجت مسرعة من المكتب، الذي بقي المدير فيه مغموراً بدخان سيجارته، وأفكاره الشهوانية تجاه ذلك الكيان الذي لا يرحل بسرعة خطى صاحبته، بل يبقى طويلاً جالساً أمام المكتب بحضوره الملفت والقوي. حين أرسل ابن المدير الرقم لغزالة، كان لابد من شكره باختصار، ثبتت الرقم ومباشرة طرقت الباب الذي تتوق لفتحه، وتتوجس فتحه بآن واحد: _السلام عليكم، أنا الآنسة غزالة، أعطاني رقمك الأستاذ عبد العليم ابن عمك. جاء الرد: تبتسم برقة، وتقول: _وعليكم السلام، نعم أخبرني بالأمر، أهلا بك آنستي، تفضلي… بماذا أستطيع مساعدتك؟ _زوج صديقتي الأستاذ جاسم المرود، نزيلٌ عندكم في المشفى أريد معرفة وضعه، وأريد أن أوصي بالاعتناء به. _نعم، هو. _الأستاذ جاسم المرود؟ _للآسف إن حالته حرجة جداً، فنسبة الالتهاب بارتفاع مستمر، وجسده بطيء الاستجابة للعلاج، لذلك تم تحويله إلى مشافي تركيا، وتم إدخاله البارحة مساءً. ارتجفت يدها، وسقط منها الجوال، وشهقت فزعة، وضربات قلبها آخذة بالتزايد، وكأنها تسمعها بأذنيها، فجأة، تغيرت ملامح الأقدار، وعادت لطبيعتها في إهداء غزالة كل ما يخط في مساراتها من حزن وكآبة، غزالة التي اعتادت من أقدارها أسوأ الأحداث، وأكثرها إيلاماً، ها هي تعود لسلب أجمل هدية كانت منها، بطريقة فظيعة تفتقر لأصغر لمسة رحمة، وها هي للمرة الثانية، تفجعها بحبيبها الذي جاء أول مرة لحياتها كمنقذ من مصيبتها بأهلها، وعاد من غيابه المبهم ليبث في أجساد موتاها أرواحهم المزهقة، وليرحل من جديد دون كلمة ترحيب أو وداع! من جديد، غرقت غزالة بلوعة الفراق، وجراح الحب الدامية دونما نزيف، وعادت لعتمتها وعزلتها مستسلمة بضعفها لمشيئة أقدارها المتجاهلة لحجم معاناة ذلك القلب الرقيق.

قد يعجبك ايضا