ريمة الخطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
مازلنا مستمرون مع غزالة نغوص في أغوار الروح ونكتشف المزيد من أسرار موجعة دفينة……..
شهقة من بشرى تعالت في الخيمة، ملتهبة بأسقام عديدة، باحثة عن مخرج من ملجأ تحتمي فيه من فظاعة ما تقاسيه، مسحت دموعها، وقالت بنبرة آسفة:
لولا أهلي وإجحافهم لي لما كنا فكرنا بالهرب، والزواج دون علمهم! غزالة: لولا، لولا، لولا، هم هكذا، كأجسادنا الموشومة بنقص لن تكمله أيادي القدر، ومباضع الجراحين، هم الحقيقة الموجعة.
أرجوك يا غزالة ساعديني، إنني أموت كل لحظة بدون أبي عزو، إنني أختنق. ما عساي أفعل يا بشرى! … إنني مثلك مقيدة، نحن محكومون بالتجرد من إنسانيتنا، من غرائزنا، من مشاعرنا، وأي تمرد منا سيكون حجة علينا، وليست لنا.
أتعلمين؟! … إنني والله أفضل الموت ذبحاً بعد زواجي منه، على هذا الموت الخالي من أنفاسه! تقف غزالة، وتنظر لسقف الخيمة، ترفع رأسها، ثم ترفع يدها نحو الأعلى، وكأنها تحاول الإمساك بشيء متدلٍ، أو قطاف وهم الأحلام من شجرة السراب، ثم تقول: سيكون هذ الأمر فضحية كبيرة، وسيجندون جميع أفراد العائلة من أجل الثأر لهذا الشرف المراق على أرصفة الأعراف، والشرع القبائلي، سينبت بساعات قليلة في وجوه أطفال طائفتكم شوارب النخوة، والرجولة، سيفتي قضاة العشائر بسفك دم الحب على أبواب المساجد، وفي الأماكن العامة، ستنطلق ألسنة نساء القبيلة بزغاريد النصر، والثأر للشرف المغدور، وتسقط على ركبتها جاثية، ورأسها نحو الأرض، مستسلمة ببؤس لرؤوس الحراب المسددة نحو تمرّدهما على معتقدات القبيلة، وخروجهما عن مجرى اتجاه القطيع الماضي قدماً نحو الهلاك الحتمي بين فكّين من رماد!
كمجرم محكوم بالإعدام سُئل عن آخر طلب له قبل تنفيذ الحكم، كانت رغبة بشرى تتدفق من جميعها نحو أبو عزو، حتى لو نفذ حكم الإعدام بها عشرات المرات، إذ لا طعم ولا لون للحياة بدونه، فهو الكلمة الحنونة بين رماح القسوة المحاصرة لبشرى، وهو الأم الرؤوم في زمن انقرضت فيه الأمهات، والملجأ الآمن من المعارك الوجودية في متاهات النفس الغامضة في دائرة الأخوة.
سحبت بشرى جسدها المتعب، وجلست قرب غزالة، وأحاطتها بذراعيها، وقالت:
صديقتي، أفضل انتصار عاري على عار أهلي، الذي استباح جسدي الهزيل، فاغتصبه استغلالاً واستفادة. تقول غزالة وهي ماتزال مدلاة الرأس: أوردتنا الحبلى من اغتصاباتهم المتكررة أكثر طهراً من سجادات صلاتهم المغلفة بالنفاق، إنهم كافرون!
وأجهشت بالبكاء، الذي تخللته كلمات مبللة بدماء عذريتهما المصلوبة على أبواب القبيلة المنزّهة:
قاتلهم الله، حرمونا حتى الأمل، نحن نحتاج لثورة على هذا السخط. تتمتم بشرى: لذلك قد ينتهي بي الحال بالهروب مع أبي عزو، الذي جهز كل شيء بعيداً عن الأهل الأعداء!
لكن يا بشرى. ولتكن فضيحة تضلّلهم مئات السنين، انتقاماً لسنين الألف التي أحرقوها تحت عرش القبيلة.
وتستمر مسيرة غزالة وبشرى في الكفاح والنضال للوصول لحرية جريحة، مكسورة الجناح، فالأشخاص أصحاب الإعاقات، مجبرون على خوض معارك حامية الوطيس للحصول على الحقوق المسروقة منهم في الوقت الذي يحصل الأناس الأصحاء جسدياً على حقوقهم دون تعب، بل وتصلهم تلقائياً على طبق من عنصرية!
عادت بشرى لمكانها، وهي تسحب قدمها، أمسكت جوالها، فتحته، وبدأت بتسجيل صوت لأبي عزو:
كيف حالك يا فرحة العمر؟ لقد اشتقت إليك، وليلة البارحة لم أنَمْ، وأنا أفكر في أمر هروبنا. أسرعت إليها غزالة، وأخذت الجوال من يديها، وقالت بحدة: لا تتسرعي يا مجنونة، اصبري، فالأمر ليس بالسهل.
أعلم يا غزالة، لكنني أفكر بالهروب، ليس فقط لأعيش مع حبيبي الذي أنساني مآسي عمري. تقول هذا وتصمت، فتنظر غزالة نحو الباب، ثم تمر بسرعة على محتويات الخيمة، وتقول: تريدين الهرب من هذا الجحيم، وبرغم ما يبدو عليه من جمال، إلا أنه سعير يحرقك لظاه.
بشرى:
نعم لقد سئمت عيشة الذل، والمقت مع هؤلاء المجرمين. غزالة: أريدك أن تفكري بالأمر جيداً، فقد ينتهي بجريمة لا سمح الله.
ليكن يا عزيزتي، ما عاد الأمر مهمّاً، إما حياة مثل باقي البشر، أو موت ينهي هذا العذاب. محطات أعمارنا امتحانات عظيمة نعيشها، قد نفشل بتجاوزها، ونبقى بين جنباتها نحارب الوهم بسيوف من هواء، هي انكساراتنا من تجعل منا لقمة سائغة بين فكي الطغاة، فنعطيهم بضعفنا ذريعة تساعدهم على افتراسنا، ليعطونا إحساسنا باللا شيء، إحساسنا بالعدمية. حبال المطر الغزيرة، والتي تصل الأرض بالسماء بخيوط من آمال متراخية من غيوم شتاء كثير البركة، جعلت من جوّ المخيم صمتاً خيّم عليها، وأغرق شوارع المدينة الزرقاء في ضوضاء، وسكانها الموتى داخل الخيام، والبيوت الصغيرة. جلست غزالة في غرفة المحامل مقابل بابها الذي لم تغلقه لتستمتع بمراقبة المطر الذي راح يقبّل الأرض بشوق عاشق في ليلة زفافه من معشوقته الأبدية. هذا المشهد الحميمي أجّج في روحها حنيناً ثقيل الوقع على الروح العاشقة، الغارقة في وحدة وصمت وولهٍ. حملت جوالها، وكتبت رسالة بحروف من لهفة: أشتاقك كشوق الجسد لروحه البعيدة عنه، أين أنت؟
كان رد جاسم سريعاً، وكأنه على موعد مع رسالتها:
وتشتاقك روحي، لتستقر عندك جسداً يحضن روحاً ضائعة بعيدة عنه، أنا بين نبضات قلبك. تنزل دموعها على خديها لشدة شوقها له، وتعبها بالبعد عنه، فتسجل صوتاً تتعارك فيه كلماتها مع دموع اللهفة والحنين: لم أعد أحتمل بعدنا أكثر، أرجوك ألغِ هذه المسافات بيننا، اقتل هذا الوقت القابع على أجفاننا كسجان متوحش.
صوت جاسم:
أنا أتوق أكثر منك لفعل ذلك، لكن الظروف! غزالة: تباً للظروف، سحقاً للمال، أنا لا أريد شيئاً، أريد أن نكون معاً فقط.
جاسم:
اهدئي يا حبيبتي، أشعر أنك متعبة، قريباً سنكون معاً إن شاء الله. جاسم، خلصني من وحدتي، أنقذني من مرّ الفراق، أخرجني من جحيمي إلى جنة قلبك.
صبراً يا عمري، فلم يبقَ إلا القليل، إنني على موعد مع الحياة بين جفنيك الذابلتين. وعمّ صمت الغرام بألوانه المألوفة الأخاذة لدى العاشقين المغرمين حتى النهاية. ذلك السؤال المنبثق من حنايا الوله المنتشر في الأعماق، كان له لذة تحمل (جاسم وغزالة) أجنحة من نور، وتحلق بهما بعيداً عن الأمكنة والأزمنة، بعيدة كل الوجود، بعيداً، بعيداً. جاسم: أين كنت كل هذه السنين؟! … أين كنت يا شهية العينين، أين كنت يا مستحيلة!
فتجيب ذبذبات الودّ بحنان الكون كله:
كنت في القرية، أنتظرك كما انتظرت ساندريلا أميرها. وتنتهي المحادثة بضحكة حب تشمل كل ما في الكون من رهافة، ولطافة، وحب بريء. هكذا يجيء الحب، يضمنا بين ذراعين من عطر، يشدنا لصدر الحياة بأنامله السحرية، ويزرعنا براعم من لؤلؤ في محار العشق المخبأ تحت رمال الهيام المعتق كنبيذ الملوك الفاخر بكؤوس من ألوان الغسق. لم تخبر غزالة حبيبها جاسم، بأمر تعلّق ابن مدير الشبكة بها، وتلميحه لها بحبه وإعجابه، فهي تعلم جيداً أن هذا سيؤلمه، ويشعره بتقصير تجاه أمر زواجهما الذي يؤخره عدم قدرته على امتلاكه لمهرها، حتى عندما اعترف لها ابن المدير بحبه صراحة، لم تهتم لهذا الأمر، فحبّ جاسم امتلك قلبها، وأغلق بنيانه بأقفال لا مفاتيح لها. وبرغم مضايقاته لها أحياناً، إلا أنها تتجاهله بلباقتها المعهودة، ولولا حاجتها الماسة للعمل لتركت عملها عند أبيه، لكنه باب رزق فُتح في وجهها، باب تحقيق الأحلام، وإثبات الذات، بعد إنكار من المحيط، الذي كسرت غزالة بعملها كل معتقد بأنها (عاجزة) وغير قادرة على العمل والعطاء والكسب، فعملها أولاً لدحر نظرات المقت، والجحود من أهلها، وثانياً لتحقق ما تمنت في عملها الذي أبدعت فيه حين سنحت لها الفرصة، فغزالة اليوم شخص موجود برغم كل ما مرت به من تغييب وتعتيم وتهميش، هي عضو فعال في المجتمع، لها كيانها وبصمتها التي صرخت بعد خرس طويل، وقالت أنا موجودة، رغماً عن الرافضين. إنها تتجاهل أي شيء يصدر من ابن المدير، الذي جاء متأخراً لحياتها، جاء بعد أن استوطنت جيوش جاسم معاقل قلبها وروحها. هي أيضاً لم تحكي له عن نظرات الإعجاب من زملائها في العمل، فهي تقرأ في عيونهم رسائلهم الصامتة، وتدرك ذلك بحدس الأنثى الذي لا يخطئ، فتقول في سرّها: الآن جئتم؟! … الآن تتزاحمون على أبواب قلعتي! لطالما أبقيت أبوابها مشرّعة لتدخلوها، وتعلنوا سلطتكم عليها، وتخطفوني من غياهب معتقلات النفي والتهميش!!
الآن، وبعد أن سلّمت جميع مكنوناتي لحبيب الروح جاسم!
لا، لن أهجر بساتينه المزهرة التي زرعناها معاً، لن أرحل عن قصوره، التي بناها لي بكلام الغزل، وآهات الشوق، لن أبيع فقره بغناكم، فغناه بالعشق يساوي غناكم في المال، لو كان هؤلاء الرجال المعجبون بجمال ورقة وأخلاق غزالة، لظهروا في حياتها قبل أن تتعرف على جاسم، كانت سترحب فرِحة بأول شخص منهم دون تردد أو تفكير.
حينها كانت ستراه منقذاً لها من بئر الوحدة، واللظى، لكنهم تأخروا بالوصول لمحطتها، تأخروا لدرجة أنه لم يعد بالإمكان التفكير، مجرد التفكير بأمرهم.
مرت سنتان من الحب المدمى بجروح الشوق والتوق للحظة لقاء تبدأ فيها مرحلة جديدة بجميع تفاصيلها من حياة غزالة، كانت أجمل وأكثر سنتين غشّاهما الوصب اللذيذ، والوجع المحبب لدى الطرفين، بين أمل وألم، وعطش وارتواء، بين فرقة ولقاء، أروع ما قد تعيشه غزالة، وكأنه عالم من خيال ساحر، لألمه طعم شهي، ولفرحه مدى لا حدود له، كل شيء فيه مذهل ومثير.