ريمة الخطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق
هذا ماسنعرفه في جزء اليوم ونحن نمضي في كهف غزالة………
في متاهات اللوم، والعتب، أمضت غزالة وقتاً طويلاً، فأختها زهراء لم تكفّ عن ذلك للتغيير الواضح في معاملة غزالة لأخواتها ولقلة التواصل معهم، القريب بالزيارات، والبعيد خارج سوريا عبر الانترنت، وكجوابٍ لاستغرابها، وردّاً على استنكارها لهذا التغيير، صاحت غزالة:
ماذا تريدون مني بعد؟! … ألم يكفيكم ما أخذتم مني؟! … نعم أنا تغيرت، وأعترف بذلك، غزالة الغبية طيبة القلب ماتت. زهراء: لكن لماذا كل هذا؟! … لأن أمّنا ظلمتكِ تمقتيننا جميعاً!
لااا، ليس لهذا، فقبل أن أتغير أنا، تغيرتم جميعكم، لقد سقطت أقنعتكم عند أول مطب تعرضنا له جميعاً. كفّي عن هذا الهراء، أية أقنعة، وأية مطبات!
نعم لقد غرق كل واحد منكم بهمومه، ومشاكل بيته وأولاده، ونسيتم من كانت تغرق بمشاكلكم أكثر منكم. زهراء: لكن…
وتقاطعها غزالة بغضب، وصراخ:
اصمتي، لا تنكري أنكم كبرتم على حين وضعتكم الحياة بمواقع لم تضعني فيها. وانفجرت غزالة ببكاء مرير، أخرجت به كل ما عانته، بسبب تعالي وإنكار إخوتها لها، ولما قدّمته لهم من روحها المعطاءة. قالت لها بصوت العبرات الصارخ: أنتم تعطونني فتات أموالكم الزائدة عن حاجتكم، أنا كنت أعطيكم ما أنا بأشد الحاجة له، ومهما أعطيتموني من أموالكم لن ترقوا لما أعطيتكم، لن تصلوا لما آثرتكم به على نفسي (دولاراتكم وريالاتكم) أرخص من دمعة واحدة نزلت من عيني حزناّ على أحدكم، نقودكم أتفه من لحظة عشتها بالخوف عليكم، أقبح من صرخة آه صرختها عنكم في لحظة ألم.
قالت هذا، ودموع الخيبة تبلل كفيها، وحجرها، ثم بشهقة استغاثة، في زفرة متسوّلة من وصب كظيم، تابعت:
لن تفهموا ما أقصد، لن تعرفوا معنى ما أقول، فأنتم لا تفهمون سوى لغة المال، لغة المادة التي خلعت عنكم ثياب الخداع والرياء. حين تتلاعب بنا الأحداث، وتغير أماكننا الأيام، وتحمّلنا مالا نطيق من تغيرات، وتحديثات غير متوقعة، لابد لنا من التأثر بكل هذا، لابد لأمور كثيرة من أن تتهاوى، وأمور أخرى أن تتشبث أكثر، وتصنع لها قواعد متينة. هكذا الظروف تعمل على صقلنا وتبلورنا، وتعمل على تشكيلنا بالشكل الذي سنمضي به حياتنا الأبدية، فوق التراب وتحته، ما يكون منا فوقه يحدد ما سيكون لنا تحته، ففي كل جرح تغيير، وفي كل موقف تتفاوت فيه المشاعر تغيير أيضاً، في كل حدث جلل تغيير يأخذنا نحونا، نحو شخصيتنا التي وصلت ذروة التطور، وقمة الأنا، حيث نقف على النقطة الأخيرة في تكويننا. ها هي رياح تغيير غريبة مخيفة تتسلل هذه الواحة القرمزية الهادئة في أركان الحياة الغابرة، ها هو القدر من جديد يفاجئ غزالة بأحداثه المريبة. أرجوك لا تفجعني به، كما فجعتني بأمي، وإخوتي، وأهلي.
هكذا توسلت غزالة للقدر أن يكون رحيماً بحالها، ولا يجعل من ملاذها وسبب سعادتها وهْماً لا تلمسه شغاف قلبها الرقيق.
على غير العادة بات تواصل جاسم معها قليلاً، وبارداً نوعاً ما حين يكون، لم تسمع منه كلاماً يؤكد إحساسها، لكنها لم تخطئ بفهم كل همسة، ونفس لحبيب القلب جاسم، فتاهت بين النفي والتأكيد، وراحت تغالط نفسها بما علمته، فغاب ذلك الصوت الحاني ذو النبرة السحرية، واختفت ضحكات الطيور المحلقة بين كلمات الرسائل المعطرة بشوق، ووصب، وتحولت تلك المملكة لسجن كبير، كثير الأبواب، متين الأسوار، وذبلت زهور البساتين اليانعة، وصمت ربيع الحب بحزن كسير، وكأنه يبتلع رمقه الأخير قبل إعلان النهاية، وإسدال الستارة على آخر فصل في مسرحية روميو وجولييت للقرن الحادي والعشرين.
حين كانت تسأله عن انشغاله عنها، وعدم التواصل، كما في البداية، كان يقول لها بأن العمل يأخذ كل وقته، فمهامه تضاعفت بعد ترك العمل من قبل بعض الموظفين في المكتب، أما حين كانت تستغرب بروده واختصار رسائله وجفافها كجفاف شجر بعد أن هجره صاحبه، وقتله العطش يقول:
هو التعب، الذي لم يترك له شغفاً، ولا همة لشيء، أما جوابه على سؤالها (متى سنتزوج)، فهذا ما كان يذيب قلبها ويؤكد إحساسها المتوجس: اتركيها لله، حين يأذن الله سنتزوج.
عواصف الشتاء العاتية، ورياح الشمال المميتة، وطيور كاسرة، مع وحوش الفلا الضارية، جحافل عظيمة تزحف نحو واحة الأمان، التي استأنست بها غزالة سنتين، تقتلع أشجارها، وتقطع أزهارها، وتردم آبارها وأنهارها، وتكسر أجنحة طيورها بسهام الغدر والخيانة لتلك المعاهدة المبرمة بين روح غزالة، وتصاريف الحياة!
شهران مضيا دون تواصل، ولو بكلمة، أما رسائلها التي كانت تُقرأ، ولا يُردّ عليها، فقد باتت كطفلٍ يتيمٍ فقد أبويه حديثاً، جالساً على رصيف الذكريات، يستعيد أمجاد الماضي، فيرزح صارخاً بعبراته بين الضحك والبكاء!