ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
أنهت الحاجة أم عمر حمّامها، واتجهت نحو غرفة الجلوس، وكرصاصة غادرة كُسِرَ باب البيت ودخل بعض الرجال الملثمين وتحلّقوا حولها وسددوا بنادقهم نحوها.
صرَخَت فزعةً وركضت نحو الكرسي أخذت غطاءها ولفّته حول جسدها النصف عاري، أخذت نفساً عميقاً وصاحت بهم:
مابكم!، ماذا تريدون؟ أهكذا تدخلون البيوت! أليس للبيوت حرمة عندكم؟!. عيونهم المحدّقة بها لم ترف جفونها، وغرق الجميع بصمت كسر حدّته صوت الملازم: -هيّا كفّي عن الكلام، وتعالي شرفينا بطلّتك البهية، سيادة النقيب يريد أن يراك. وبشراسة هجم عليها وأمسك بيدها، قادها وخرج من البيت مسرعاً، تطاير الغطاء من على أكتافها، فركض أحد الجيران ممن خرجوا على الأصوات يستطلعون الأمر، ورمى لها بثوب أخذه من حبل غسيل الجيران(عباءة)، أخذَته وسترت نفسها به، فضرب الملازم الرجلَ وأسقطه أرضاً، وحشر الحاجّة في المصفّحة مع باقي العناصر. تجاوزت العديد من الزنزانات التي تحلِّق فوقها أشباح الموت، معلنةً في كل ثانية ارتقاء شهيدة تركت خلفها أولاداً يتامى وأمهات ثكالى. أصوات ضحكٍ عالية، ودخان عابق في جو مكتب التحقيق. وقف النقيب ومشى نحوها مرحِّباً باستهزاء: أهلاً… أهلاً بالحاجّة أم عمر، شيخة المخربين ورئيسة تنسيقيات ريف حمص الحبيب.
أمسك بيديها وراح يهزها بقوة، وهي تترنّح بين يديه كدمية من خرق قديمة، فهي في الستين من العمر، ومرض السكر والضغط تعاونا على سلب جسارة الجسد القوي:
أنا بعمر أمك يا ولدي… احترم كبر سني. قهقهته البشعة كانت أقلّ قسوة من كلماته الحاقدة: خسئتِ… خسئتِ أن تكوني مثل أمي، أمي لا تتستر على الخائنين، أمي لا تحثّنا على تخريب وطننا الحبيب، أمي لا تتعامل مع المخربين الذين يعملون كخفافيش الليل في الظلمة ليزعزعوا أمن البلد الذي أكلوا من خيره وتنعّموا بأمانة.
لا، أنا لم أفعل أي شيء مما تقول. اخرسي، أين ولداك؟ عمر وعمار، أين هما منذ ثلاثة أشهر؟!
انطقي… أنا سأقول لك أين هما،
إنهما مع باقي المخربين ينصبون الكمائن ليخطفوا قاداتنا الأبطال الذين يسهرون على أمنكم وأمانكم،
ويعملون على تجنيد المخربين.
يسكت، ثم يخطو للباب مسرعاً، يفتحه وينادي:
-أدهم تعال بالحال، سأعلّم هذه العجوز اللعينة كيف يكون حبّ الوطن.
وقيداها وأجلساها على الأرض، ورفعا قدميها للأعلى، بعد أن أسندها على كرسي، وراح يضربها بجلد مجدول مربوط بعصا.
لم تتحمل أوجاع حقده وبغضه اللا إنساني وضربه الوحشي، فغابت عن دنيا البغي والبطش.
في اليوم التالي وجدت نفسها بين إحدى عشرة معتقلة، في مكان فاحت فيه روائح الرطوبة وغطته الأوساخ، وعششت فيه جحافل الحشرات المختلفة.
كانت تستمع لقصص المعتقلات الحزينة وكيف تم اعتقالهن من بين ذويهن وكيف تعاملن بقسوة، ويتم اغتصابهن مرات ومرات من قبل خلية الإجرام التي تستلم زمام أمور شعب عريق، فتقول وكره الكون يتخلل نبرة صوتها المتعرج:
-إنهم كفرة، قلوبهم من حجارة،
لا يرحمون كبيراً ولا يراعون صغيراً،
تتنهد وتقول:
حين يحقق معي ذلك الوغد وكنت أرزح تحت سياطه المؤلمة، يصرخ بي قائلاً: لا تظنّي أنني سأشفق عليك وأتركك لأنك عجوز، مهما كنت كبيرة فخيانتك أكبر.
بعد ستة وثلاثين يوماً من اعتقال الحاجة، وفي صبيحة يوم أغبر صاح السجان:
-أم عمر… النقيب يريدك، تفضلي.
وراح يجرّها بعد أن صفّد يديها.
دخلت المكتب الذي علت أصوات الأغاني التي تمجد بمناقب الرئيس وجيشه.
وقفت أمام طاولة المكتب ونظرت بعيني المحقق المختبئتين خلف دخان سيجاره، لمحت نظرة شريرة ترقص بانتشاء، هبّ مسرعاً، أمسك يدها وسحبها ومشى بها نحو النافذة التي أُسدِلت ستارتها، رفع الستارة وضحك مثل مجنون هارب من مصح عقلي:
-مارأيك بهذه المفاجأة الجميلة؟
أولادك فلذة كبدك سيعترفون عن مكان المخربين جميعهم في المنطقة، أو سيرون جسدك قطعاً صغيرة، لن يتحملا هذا المنظر أكيد. كصنم من حجر الصوان تجمدت في مكانها، واتسعت عيناها الصغيرتان، فقد هالها حال ابنيها اللذين تورم وجهاهما وازرقّا من شدة التعذيب، هاهي الآن تعاني كمن يبلع السكين على الحدين، من ستخسر! ابنيها، أم شباباً خرجت نصرة للحق وسعياً لتحقيق العدل والسلام؟!! صمتٌ عميق وحيرة واختيارٌ أشد أسىً من الموت. نظرت للنقيب ابتسمت، ثم نظرت لابنيها اللذين ترجتها عيونهما بأن تبقى صامدة، وكفارسٍ شهر سيفه بوجه ظلم الكون، غير مهتم لأي خطر قالت بكل فخر: -ليسا ولداي… اقتلوهما، أنا ولداي ماتا على الجبهات كما تقولون ياسيدي. صمتت، ثم تابعت، وعيونها تلمع بفرحة النصر: لكن لدي مئات الأبناء الموجودين الآن خلف جدران معتقلاتكم سيبقون سهماً حراً يخترق صدر كل معتدٍ آثم.