في أحضان الموت.

469

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق


بعد غيابها خمسة عشر يوماً في قرية زوجها عادت “كندا” لبيتها في حماة، كان طريق العودة طويلاً رغم قصره، فشوقها لابنتها “سما” كان يفوق كل حد، وهذا ماجعلها تأخذ إذناً من ابن خالتها قائد الكتيبة والعودة لبيتها، ولأنه يعلم بأن مهمتهم هذه المرة ستطول على الجبهة، وافق بعد أن اتفقا على أن تعود بعد أسبوع لتتابع عملها في إسعاف المصابين من عناصر الكتيبة، فهي طبيبة جراحة عامة نذرت نفسها وعملها لخدمة ثورة الحق بعد إعدام زوجها ميدانياً في سجن صيدنايا بتهمة تهريب السلاح للإرهابيين.
طرقت باب بيتها بلهفة كبيرة، فتحت أختها الكبيرة حميدة التي تفاجأت بعودتها قبل موعدها، أمسكت يدها وسحبتها للداخل، أخرجت رأسها من الباب وراحت تتلفت يمنةً ويسرة
بدت الدهشة واضحة على كندا، فصاحت:
-ماذا تفعلين… مابك؟!!.
وتوقفت عيناها على وجه أمها العجوز، التي سمّرت قدميها بباب غرفتها:
أمي مابك؟!!…ماذا حدث؟!، أين سما؟ وركضت نحو غرفتها وهي تصرخ: سما… سما…
أوقفتها حميدة، وهي تمسك يديها بقوة:
اهدئي، سما ليست هنا، لقد… لقد… (ابتعلت ريقها)، لقد أخذها عساكر النظام البارحة وقالوا إذا سألت عنها أمها قولي لها أن تأتي للفرع وتأخذها حين تنهي مهمتها مع المخربين. شهقت كندا شهقة كخروج الروح من جسدٍ مريض، ونفرت دموع الصدمة من عينيها، سقطت على الأرض وأجهشت ببكاء يقطع القلوب، وكعاصفة خريفية مفاجئة امتلأ البيت برجال الأمن المدججين بأسلحتهم، بعد أن كسروا الباب التفّوا حول كندا وأشهروا الأسلحة عليها. تحجّر كل من في البيت، قال الضابط واعزاً: -هيا يا دكتورة، يجب أن تحضري معنا إلى الفرع، لدينا حالة مرضية ونحتاج لخبرتك في العلاج. أمسكوا بها بقوة وقادوها بعد أن عصبوا عينيها. أمضت ليلتها الأولى في أحد مكاتب الطابق الثاني من فرع الأمن العسكري، ساعاتٌ مرت عليها وهي جالسة في الزاوية تنتظر ما سيفعل بها حين يأتي النقيب خليل. أفزع غفوتَها المتسللة إلى عينيها كلصٍّ محترف وقْعُ أقدام النقيب، هالها طول قامته، فبدت أمامه كقزمٍ صغير حين جذبها إليه، وكأنه يحمل شيئاً ليس له وزن! أهلا وسهلاً بطبيبتنا العظيمة… هل أنهيت مهمتك هذا الشهر؟!.
استجمعت بعضاً من قواها وقالت متصنعةً الشجاعة:
-أيّة مهمة؟،لا أعرف عمَّ تتحدث، أريد ابنتي سما.
دوت ضحكته في الأرجاء، وتبعها كلام قاتل:
-ابنتك في أحنّ حضن لاتخافي عليها، أخبرينا أين مقر كتيبة المخربين وما أسماؤهم حتى نعطيك ابنتك.
ارتجفت شفتاها وانعقد لسانها وحيرةٌ عصيبة خُلِقت بعينيها:
أيّة كتيبة؟! وأيّ مقر؟!.. أنا لا أعرف شيئاً، أريد ابنتي. ككرةٍ قذف بها على الكنبة، وأمسك وجهها بكفيه وقال: اسمعي أيتها الطبيبة المحترمة، اشتري نفسك وابنتك بالاعتراف، أو أنك وابنتك ستدفنان في الحياة.
أكل الصمت كل لغات العالم، وهجم البؤس على أفكارها الحزينة.
عشرة أيام قضتها كندا في مكتب التحقيق تتلوى كغصنٍ في مهب الريح، كلُّ صعقة كهرباء كانت تجعلها تصرخ باسم ابنتها سما، كل جلدة تتلقاها وهي محشورة في دولاب الخنق كانت تدفعها لتتأوه باسم سما، حتى وهي تقاوم الاعتداء عليها كانت تتنفس سما.
في اليوم الحادي عشر، بعد اغتصابها من قبل النقيب خليل، جلس خلف مكتبه وأمسك زجاجة الخمر، شرب رشفة وقال:
-على مايبدو ستتركيننا ياحلوتي، غداً سيتم ترحليك مع باقي الخائنات إلى فرع آخر، ليُنظر بأمركن.
رشفة ثانية، ثم:
أمّا عن عنادك وعدم إخبارنا عن مقر المخربين فلم يعد مهماً، لأنني أراقب ابن خالتك وسيقع بقبضتي قريباً، وأما بشأن ابنتك يا جميلتي أريد إخبارك أنكِ بعتِها بالتستر على الخونة. اقترب منها، فتح هاتفه النقّال وراح يعرض لها صور سما وهي غارقة بدمائها بعد أن اخترقت رصاصةٌ جسدها الصغير. حدّقت في عينيه بتمعّن، وحقد الكون مكث في قلبها: كيف قتلتم ملاكي الصغير؟!، كيف حرمتوني منها! كم تعذبت؟! كم خافت منكم أيها المجرمون!
وخرجت من بين جنباتها قهقهة أكبر من جسدها الهزيل وانهالت عليه بالضرب وهو يصدها مستغرباً.
في مشفى الأمراض العقلية أُودِعت كندا نزيلةً مدى الحياة بعد أن حُكِمَ عليها بتهمة خيانة الوطن!

قد يعجبك ايضا