الموت مَرَّ من هُنا
ريمة خطاب |شبكة مراسلي ريف دمشق
الزُّحام الذي كان يخنق أنفاس سائقي المركبات والمارة، والدخان الكثيف المتصاعد من السيارات والدراجات النارية، كان كغيمةٍ سوداء غطت وجه السماء.
حرارة الشمس المحجوبة خلف الغيمة السوداء، كانت تشعر كل من يدُبُّ على الأرض وكأنه في فرن يتعرض للشواء!!
كان الوقت ظهراً وعلى غير العادة في مثل هذا الوقت لا يحدث كل هذا الازدحام إلا أن اليوم كان استثنائياً، فبعد أن انتشر خبر الهجوم العنيف على البلدة ليلة أمس، ترك جميع أبنائها مكاتبهم وعياداتهم ومحالهم في المحافظة وعادوا ليطمئنوا على عائلاتهم وذويهم.
كان الخبر كزلزال هزَّ المنطقة، وفجع الكثيرين بزوجاتهم وأمهاتهم وأولادهم “مجزرة جماعية” لجميع من نام في البلدة تلك الليلة، إلا صاحب العمر الطويل.
الرعب والقلق على أمه وأختيه وجدِّهِ المسنّ، أخذا من صديقي عبد الرحمن مأخذه.
بعد صمت طويل قال بنبرةٍ هادئة:
- ليتني استطعت أن أستأجر بيتاً في المدينة، كنت أخذت أهلي ليسكنوا معي، أتعرف يا كامل؟ أحسدك وأحسد كل من استطاع إخراج أهله من تحت نيران الموت، لكن يعلم الله أني حاولت جاهداً أن أؤمن مسكناً يتسع لي ولأمي وأختي وجدي العجوز، لكن ما أجنيه من عملي لا يغطي مصاريفنا وأجرة بيت في المدينة، حتى لو كان غرفة واحدة.
وصلت مع صديقي عبد الرحمن لأول البلدة، نزلنا من “السرفيس”، كما فعل من ركب معنا من الجيران والمعارف، تقدمني عبد الرحمن بخطاه المسرعة، قاصداً حيهم، استقبلنا خرابٌ وُزِّعَ على جانبي الطريق.
فالأشجار اقتلعت معظمها وما بقي منها احترقت وتكسرت أغصانها، البيوت الجميلة تحولَّت إلى أكوام حجارة طحنت وملأت المكان، صراخ الناس وصفير سيارات الإسعاف، الرجال المسعفون “الدفاع المدني”، فوضى من آلام طغت في أرجاء البلدة الجريحة، رائحة الموت المدمى انسابت في جوِّها الحزين، كل شيء مخيف كأنك تمشي في حقل ألغام، قد تتعثر بقدم طفل مقطوعة، أو ترى أحشاء شخصٍ خرجت من بطنه، أو تُصعق بمخّ رأسٍ خرج من مكانه.
كَسَهْمٍ من نار انطلق عبد الرحمن لموقع بيته تبعته فيما لهاثنا يكاد يسمع من أول البلدة، كان هناك رجال يحاولون إبعاد الركام عن شخص يصرخ تحته، تعاونّا على فتح منفذ صغير يوصلنا لصاحب الصوت، وأخذنا نجعله أكبر وأوسع، حتى سحبناه بهدوء وحذر شديدين، صرخ عبد الرحمن: - جدي… يا إلهي… إنَّه جدِّي، حملناه لسيارة الإسعاف التي امتلأت بالجرحى والموتى، وقبل أن تنطلق السيارة أراد أن يسأله عن أمه وأختيه:
- جدِّي أين أمي وسعدة وهناء؟
لم تساعد الجدُّ المصاب بجروح عميقة كلَّ قواه التي كان يستجمعها ليجيبه، غلبه ضعف جسده الهزيل وإصاباته البليغة فأغمي عليه.
عاد عبد الرحمن لبيتهم علَّهُ يجد أمه وأختيه لإنقاذهِنَّ، تبعته وقدماي بالكاد تحملاني من هول ما نحن فيه.
فسيارات الإسعاف تنقل المصابين والموتى، وصراخ ومناجاة تنطلق من كل جهة لهول المناظر التي تخبر عن جرائم لوحوشٍ بشرية، فهذا يحمل نصف جسد ابنه، وذاك يحضن أباه الذي شُوِّهَ وجهُه، وآخر ينوح على أولاده الذين لم يجد لهم أثراً، أما صديقي عبد الرحمن فراح يتعارك مع حطام بيته، يغلبه حيناً، ويقع على الأرض مغلوباً حيناً آخر، صرخةٌ قويةٌ لأحد رجال الدفاع المدني من الطرف الأخر لبيت عبد الرحمن جعلتنا نقفز كالمجانين، ركضنا إليه ووقفنا بقربه محاولين استطلاع ما يجعل منه مدهوشاً مذهولاً مخطوف اللون، ويا لهول ما رأينا…
أم عبد الرحمن تحضن ابنتيها وقد تمددتا على الأرض، موت جماعي للأم وابنتيها صاحبتا الثالثة والرابعة عشرة ربيعاً،
حملنا الشهيدات الثلاث ووضعناهن في السيارة التي غسلتها الدماء.
كانت الصدمة نهاية لعمل شاق دام ساعات طويلة، وقع عبد الرحمن على الأرض…
جلست بقربه لم أستطع النطق بكلمة واحدة، لكن لسان حالي يقول:
-وحِّد الله يا صديقي، كن قوياً، المصاب للبلدة كلها، رحمهم الله جميعاً.
لملمت ما تبقى مني من شجاعة وقوة لم يأتِ عليها التعب، أنهضت عبد الرحمن، تأبَّطته، ومشينا نحو السيارة، ركبنا وانطلقنا نحو المدينة لنسعف من لم تزل في أجسادهم بقايا حياة، ولنواري الثرى من أخذت شراسة وضراوة الحرب من أرواحهم الحياة.
بسرعة البرق كانت تسير السيارة التي تحمل الموت والحياة بين جدرانها الحديدية، بلحظةٍ قد يلفظ أحد الجرحى أنفاسه الأخيرة ويزيد عدد الموتى فيها.
نظرت من زجاجها أطالع آخر ما ستراه عيني من بلدتنا المنكوبة، بلدتنا التي راحت تختفي بغيمة الغبار، المختلط بأنفاس أناس تشبثت بالحياة لآخر نفس، قبل أن ترتقي تلك الأرواح الطاهرة لبارئها.
الحزن الذي اتخذ مسكناً من قلوبنا، بعد هذا الحدث الجلل اليوم، سيبقى شاهداً على جرائم حرب شعواء حصدت أرواحاً كانت تتطلع يوماً ما لحياة كريمة خالية من ذل عانته في حضن الوطن الأسير.
وداعاً يا بلدتي الحبيبة، وأعتذر منك عني وعن جميع أبنائك، لأننا زرناك اليوم نحن وهذا الموت العنيد، الذي أصرَّ أن يترك بصمته ويقول لكل من يدخلك:
الموت مر من هنا!!!