فيْ بئرِ يوسُف
ريمة خطاب |شبكة مراسلي ريف دمشق
مرَّ وقتٌ طويلٌ وأنا جالس في بهوِ الاستقبال، أنتظر أن يحين دوري للدخول إلى غرفة طبيب العظمية، كان البهوُ مزدحماً بالمرضى والمرافقين، وساحة المشفى الكبيرة كانت مثل “أوتستراد” في وسط عاصمة، تكاد لا تميّز الخارجين من الداخلين للمشفى، فهذا المشفى مجانيّ ومختصٌّ بالأمراض العظمية، وجميع سكان مخيمات “أطمة” يعودونه عند الحاجة.
أخذ الملل يضجرني أكثر فأكثر، قمت أمشي لأضيع بعض الوقت ريثما ينادي المستخدم اسمي.
رؤية المرضى والمصابين تجعل من الحجر يتأثر، حرقت قلبي امرأةٌ شابَّة تحمل عكّازين وقد وضع لقدمها جهاز تثبيت، وامرأة أخرى حُمِلَت على السَّرير بعد إجرائها لعملية بترٍ ليدها، فقد كان هذا واضحاً من دموع مرافقتها، وتحسُّسها ليدها المبتورة بألم، أما ذلك الشاب الوسيم ذو اللحية الصغيرة الذي لُفَّتْ قدماه الاثنتان بالشَّاش الملطَّخ بالدم ومحلول التعقيم، فقد جعل من عينيَّ تدمعان، عرفت من أخيه الذي يدفع به الكرسي المتحرِّك أنَّه تعرَّض لحروق شديدة بسبب صاروخ وقع على بيتهم.
يا الله كم تجتمع في بقعة هذه المشفى من أوجاع، أسندت ظهري لمسند حديدي ووقفت أراقب التأوهات والزفرات وقدرة البشر على تحمِّل أوجاع تئن تحت سياطها أجسادٌ من لحم ودم.
أفزعَ الناسَ صوتُ سيارةٍ تتجه نحو بوابة المشفى الكبيرة،
السيارة تخترق المكان بسرعة جنونية، صوت صراخ وبكاء يصدر منها، ذُهِلَ الجميع وراحوا يفسحون الطريق للقادم المخيف.
فتح باب السيارة ونزل رجل خمسينيًّ يرتدي قميصاً يوحي للناظر بأنَّ لونَه أحمر، لكنّ المساحات الصغيرة المتبقية منه تثبت أن لونه كان أبيضاً قبل أن تصبغه تلك الدماء!
أَنزَلَ من السيارة طفلةً وحملها وهو يصرخ مذعوراً:
- إسعاف… إسعاف، ابنتي تموت، لقد انفجر لغم تحت قدميها… أرجوكم ساعدوني.
ركض الممرضون وحملوا الطفلة ثمَّ أدخلوها قسم الإسعاف، تبعهم الأب مسرعاً وهو يدعو بصوت عالٍ: - أنقذها يا الله إنها وحيدتي.
خيَّم الصمت على المكان حتى من تأوهات المرضى وشكواهم من هول هذا المشهد!
صوت المستخدَم وهو ينادي كان كصدىً يخرج من بئر عميق: - حازم قبقجي… حازم قبقجي، تنبَّهت، إنه اسمي وأخيراً جاء دوري للدخول إلى الطبيب.
بعد أن فحصني الطبيب وشخَّص مرضي “ديسك في الفقرة الخامسة” كتب لي وصفةً طبيةً وخرجت متجهاً نحو درَّاجتي النارية لأعود إلى البيت.
حال بيني وبين دراجتي زحمة رجال، التفُّوا حول الأب المنكوب الذي أبكت قصته جميع المتواجدين في المشفى، فقد كان يسرد وجعه الذي يشبه وجع الجميع: - زهرتي ماتت، مازالت صغيرة يا الله… لماذا؟! ما ذنبها؟
لقد طلبتْ مني أن أصحبها للبستان لتلعبَ تحت أشجاره، لماذا يا الله؟، قالت أنَّها اشتاقت للّعب والمرح في البستان، كما كانت تفعل قبل النزوح.
-آه يا زهرتي الصغيرة ما ذنبك حتى تحصد روحك هذه الحرب اللعينة؟!!…