وتبقى أصعب خيباتنا تلك التي تأتينا من أعز الناس وأقربهم إلى قلوبنا، دعونا نعرف كيف كان وقع خيبة جديدة على قلب بطلتنا غزالة في جزء اليوم…………
ريمة الخطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
حين تجاوز الأمر حدّ الاحتمال عند غزالة، اجتاحها التوتر والقلق، وأصبحت تغضب لأتفه الأسباب، وتصرخ لتخرج ما كبتته من صدمات، وخيبات، وانكسارات لا جابر لها إلّا الله!
فكان لابد من وضع نقطة في آخر السطر، والتّصريح بالانسحاب دونما حمل أي وزر، وتبرئة الذمة التي حملت من الخطايا ما حملته أم جابر في تسلطها على حياة غزالة.
فكتبت له رسالة تساعده بها على كتابة السطر الأخير من قصة العشق تلك:
حبيبي جاسم، وربما هذه آخر مرة أقولها، حبيبي، وشغاف قلبي، يامن مسحت أحزاني بلمسة من روحك، وأضأت عتمتي بنور حبك الخرافي بعد اعترافك لي بحبك. غرقت بالغرابة من كونك رجلاً من هذا الزمان، ويفكر بفتاة مثلي ذات إعاقة كزوجة، وكنتَ بمعاملتك الطيبة، تلغي هذه الفكرة شيئاً فشيئاً، حتى توهّمتُ اقتناعاً بأنك لم ترَ تلك الإعاقة، لكنني عدت لتلك الفكرة منذ مدة، حين شعرت بتغيرك المفاجئ، وأيقنت أنك قد صحوت من حلمك، الذي فرّغت به مكنونك العاطفي، وحققت ما تمنيت أن تعيشه من مشاعر معي، باختصار لم أكن بحياتك سوى نزوة بدأت تدقّ أجراس نهايتها منذ اللحظة الأولى، التي أحسست فيها ببرودة مشاعرك، واختفاء لهفتك، أريد أن أقول أنك أول من دك قلاعي، وآخر من سيلجها، وأنك هدمت أي مكان، قد يحتوي بعدك حبيب. وأخيراً أقول لك، أنا أسامحك من أي وعد، أو عهد قطعته على نفسك، لست ملزماً بشيء. ها أنا أوفر عليك الاعتراف بالحقيقة، الحقيقة الوحيدة، والتي تعامينا عنها طوال فترة علاقتنا. أرجو أن تقرأ رسالتي، وتحذف رقمي من جوالك، أما أنا… فلم ولن أحب غيرك مهما حدث (أحبك). بعد كتابة آخر كلمة في رسالتها، شهقت ملسوعة بنيران الفرقة، ووجدت من القساوة ما يهد جبالاً. حتى هذه الرسالة قُرأت ولم يرد عليها، فزاد إيمانها بخيانة وغدر، ونهاية حتمية. كما أن للبدايات بهجة وغبطة، فإن للنهايات شجن ونحيب، ها هي تبحث في دفتر ذكرياتها بقصة حبها عن الأسباب، التي أنهت قصتها هذه النهاية القاتلة. تذكرت نظراته تلك، حين رأى الندبة عارية لم تغطَّ بمساحيق تجميل، بعد أن ألحَّ كثيراً ليراها، من خلال اتصال كان صوتاً وصورة بينهما، كيف قبعت بعينيه نظرة غريبة، لم ترها قبلاً، فقالت لنفسها حين لم يحدث كما توجسّت، وتوقعت بأنه سينهي علاقتهما، بعد أن يرى المساحة، التي احتلتها ندبة عمرها من وجهها، وعادت لذلك اليوم، الذي سألها عن أدق تفاصيل الأذى، والتشوه، الذي فعله بجسدها ذلك (الخلع الولادي)، كيف أنّه دقّق وسأل، وناقشها بأمور طبية، قد تفيد بتحسّن وضعها الصحي، أيضاً حينها لم يتخلَّ عن حبّها كما خافت أن يفعل. أما حين أخبرته عن ذلك السّرّ الذي حملته طويلاً بمفردها وتثاقلت به جنبات روحها عبئاً جديداً لم تبُحْ لأحد به من أهلها، خوفاً عليهم من أن يتألموا لأجلها، إذ ما يفيد أن يعرفوا أن قلبها يعاني قصوراً في أحد صماماته، غير أنهم سيحزنون لحالها، كما كانت تتوهَّم. لم يعلم أحد من عائلتها بهذا الأمر سوى عمّها، الذي مكثت عنده شهراً من أجل فحوصات قبل إجراء عملية قدمها في المحافظة، حين طلب الطبيب إعادة تلك الفحوصات والتحاليل لأمر في نفسه، اتّضح لاحقاً أنه كان شكاً بمشكلة ما في قلب غزالة، فكانت تقول: يا لي من غبيّة حمقاء، أخفي عنهم مرضي كي لا يتألموا، وهم لا يشعرون بوجودي أصلاً.
أمّا حبيبها، فقد رأت بعيون صدقها وحبها له، أنّه من حقّه أن يعرف أمراً، كأمر مرض قلبها.
ردّة فعله الإيجابية والمدفوعة بقوة الحب، كانت سبباً يحمل رقم ألف لتعلقها به كأمير حبيب بطباع ملائكية.
لكنَّ اختفاءه هكذا فجأة، كان كآخر مشهد في آخر فصل من مسرحية العشق الوهمية، تلك الأكذوبة الجميلة، التي وقعت في فخِّها غزالة، ودفعت الثمن غالياً جداً.
أول اسبوع بعد نهاية علاقتهما، انفصلت غزالة تماماً عن كل شيء، فقد اعتكفت في غرفة المحامل، ليلاً ونهاراً، لا تخرج منها إلا ما نذر، أسبوعٌ كامل لم تجلس على مائدة طعام مع أهلها، هي لقيمات مدفوعة بماء نحو معدتها، بعد جوع دام أربعة أيام.
بدأ الشحوب يظهر بوضوح على وجهها الذي سيطرت عليه أشجان واسعة المدى، فتبدل بياض البشرة بصفرة الموت، وغيمتان سوداوان تربعتا تحت عينيها اللتين غارتا في تجويفين واسعين، وتجاعيد غادرة حطت على وجهها، واتخذت منه لها مكاناً أعطاها المزيد من السنين التي حُسبت عليها ولم تعِشها، كما أن سنين عمرها التي كانت تُكَدَّس سنة بعد سنة، تضاف لروزنامة من حياة الوهم.
بسرعة شديدة هزل جسدها، وضعفت بنيته، ومع كل هذا لم يلحظ الأهل هذا الانقلاب، والتحول بغزالة، وهذا ليس بالأمر الغريب، فهي آخر من يهتمون لأمره!
اضطرت أن تأخذ إجازة مرضية، لعدم قدرتها على العمل بهذا المزاج المعكر، وهذه الروح المكسورة، فقد عانت بفقدان حب توهّمته بعالم لا وجود له سوى في خيالها الخصب، والخارج عن السيطرة وقوانين المنطق العابث.
ولأن هذا الوجع الأكبر في حياتها، والحزن الأعظم، كان لابد له من أن يترك أثراً ملموساً بقوة الضعف والانكسار وبحجم الضيم والمقت، فقد قررت بعد ستة أشهر من الضياع في مقابر الأحياء في حياتها، بين قبور أبويها المفجوعة بهما، وقبور إخوتها الذين كفنتهم بيديها، ووارتهم ثرى طيبة قلبها المستغلة، والمغبونة أبداً، وقبر حبيبها الذي لم يكن سوى وهم حبيب كماء تسرب من بين أصابعها واختفى في فجوات البعد السحيقة، ولأن الحياة لا تقف عند أحد مهما كان يعني لنا، ولا تأخذ لجلل أحداثنا أي اعتبار، قررت أن تواصل العيش، حتى ولو بدون روح، بدون نفس يوحي بأنها إنسان مازال على قيد الحياة.
عادت للعمل في الشبكة، وحاولت أن تبدأ من جديد، بعد أن رتبت أوراقها برؤيتها الجديدة للحياة والبشر.
ولأنها اعتادت أن تكون لوحدها في جميع حروبها، جندياً وحيداً تدافع عن نفسها بسلاح بدائي قديم، واعتادت أن تداوي جراحها بأدوية من إيمان وتسليم بقضاء الله وقدره، فقد استأنست بالآية الكريمة (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، وتمسّكت بحبال الله الرحيمة، ولجأت إليه بانكسارها وضعفها، لتستمد عزماً، وقوة تواصل بهما الاستمرار، والمضي في حياة خالية من الحياة!
عملت واجتهدت، وأبدعت من التصاميم ما عجزت عنه أيادي (الأكاديميين) في هذا المجال، وهذا ما جعلها تتبوأ منصباً أعلى في إدارة الشبكة التي راحت تزهر، وتعلو نجاحاً وتميزاً في دنيا الإعلام، والجميع يقرّ لغزالة بفضلها في ذلك التميز والنجاح، وحتى الأهل الذين تيقنوا أن غزالة بعجزها الذي كانوا يرونه عيباً ونقصاً فيها، استطاعت أن تتحدى جميع المعوقات، وتثبت أنها ليست كما يظنون كائناً طفيلياً يتغذى على تعبهم، ويأكل قوت أطفالهم.
وأن هذا الوضع الذي كانت تعيِّرُها به أمها بأبشع الألفاظ هو تميّز واختلاف إيجابي وليس عاراً.
وهي أيضاً توعز بفضل هذا النجاح بعد الله عز وجل للسيد مصعب أمين، الرجل المحب الطيب، الذي كان معها خطوة بخطوة في هذا العالم الجديد الذي دخلته، بمساعدته، وعلى ضوء إرشاداته، ونصائحه، كانت تسير، وتعمل، حتى وصلت لهذا النجاح.