عبر محطات حياتها المتنوعة تأخذنا معها نتنقل بين جرح وفرحة وبين صرخة ألم وضحكة، هيا معنا لنعرف أي المحطات سنزور اليوم مع بطلتنا غزالة الكهف ………..
ريمة الخطاب | شبكة مراسلي ريف د
لن تنسى غزالة ما عاشت، ذلك الموقف الذي انغرز بصدرها كسكين من نار حين كان الموسم وفيراً، فقرر الأب أن يترك أجرة عمل بناته لهنّ كي تشتري كل واحدة منهنّ قطعة من الذهب، وكان ذلك فعلاً، فقد اشترت وصال وشيماء أقراطاً جميلة، محلاة بألماس باللون الأحمر البديع، أما زهراء وتيماء، فقد اشترتا خاتمين رائعين، كانا يزينان أصابعهما التي لم تلبس الذهب مسبقاً.
غصّة هذا الموقف المؤلم، لم تترك غزالة يوماً واحداً، فقد كُسر خاطرها المكسور أبداً، بمواقف مشابهة لهذا الموقف من العنصرية، والجحود والظلم من الأبوين الحنونين!!
لن تنسى غزالة يوماً، كيف كان يجب عليها أن تبكي يوم لم يحسب حسابها بثوب كباقي أخواتها، اللاتي قمن بتفصيل ثياب من قماش المخمل، وطرزنها بخيوط الحرير المذهبة، أغصان ورود معرّقة على الصدر، والخصر، والأكمام، ليلبسنها يوم عرس أخيهن جابر.
لم تنسَ كيف بكت، وقالت لأمها:
_وأنا أيضاً أريد أن أفصّل ثوباً لألبسه بعرس جابر، مثل أخواتي.
لم تنسَ تلك النظرة الفارّة من عيون ابنة الجيران في عرس جابر، حين حضرت مع المدعوين لحضور حفل الزفاف، واستقبلتها أخواتها بثيابهنّ الجديدة، وهنّ يضعن أحمر الشفاه والكحل في عيونهنّ، فرًحا بعرس أخيهنّ الكبير، وكيف أنّها خرجت من المطبخ لتخبر أمها بأن “حلّة المحاشي” قد نضجت، وأنها ستبدأ بطبخ الدجاج قبل حضور باقي المحتفلين، ففوجئت بنظرات إبنة الجيران، التي راحت تقارن بين ثياب غزالة القديمة والمبتلة بالماء وبين ثياب أخواتها، وبين الوجوه المزينة بأنواع مساحيق التجميل، وبين الوجه الملوّث ب “شحّار” حُلَلِ الطعام!
لم تنسَ ماذا كان دورها في كل عرس لإخوتها، وأين كان موقعها المعتاد الذي ألفه جميع من يعرف غزالة، وأهلها من القرية!
التعزيل، والترتيب، والطبخ، وتحضير الولائم للمدعوين، كانت مهامها التي لا مناص منها، كانت الأخوات والقريبات يساعدنها في ذلك، لكن العبء الأكبر والمسؤولية، تقع دائماً عليها، فلا مجال للخطأ، وليس مقبولاً أي تقصير مهما كان السبب، فقد كانت مسؤولة عن أمور البيت من الإبرة، وحتى أكبر شيء.
ها هو الشتاء يلوح بقدومه من أماكنه البعيدة، محمّلاً بعواصفه، وزمهريره، ورياحه، التي لها سلطة قوة في هذه المنطقة العالية.
غزالة في هذا العام، لم تحمل همَّ الشتاء، كما كانت طوال حياتها، لم تعد تخشى أمطاره الغزيرة، ولا الوحل الذي يعرقل مسيرها، ويضيف أقفالاً جديدة لسجنها، فقد خبأت لشتاء هذا العام حبَّ جاسم، الذي حوّل حياتها لفصل ربيع، لن تذبل وروده، ولن تنضب أنهاره، ولن تهاجر طيوره أبداً، لم تخَف برده، الذي كان يخترق خلاياها، فغزل جاسم، وأحاديثه الدافئة أضفت على أيامها دفئاً يحول الجليد إلى شلالات عشق متدفقة، ولم يعد لساعات ليل الشتاء الطويلة سلطة، فقد تبخر الملل والضجر كما يتبخر الماء من المحيطات بحرارة الشمس، فوجود جاسم في حياة غزالة لمسة شفاء لجميع جراحها، وومضة فرح استقرت في الأعماق لتحوّل الدنيا لعيد لا تعرف أيامه غير السعادة.
غيوم كانون الأول السوداء القادمة كقطار قادم من بلاد الخير باتت جميلة في عيون غزالة، والبرق والرعد الصادران عنها لم يعد صوتاً مخيفاً يرعبها، بل صار كمعزوفة موسيقية، عزفتها أيدي الطبيعة الخيّرة، فكانت ترافق أوقات غزالة حين كانت تقضي ساعاتها الطوال في محادثات عذبة حنونة مع حبيب العمر جاسم.
في ظهيرة يوم مشمس، كانت غزالة تجلس على الممشى تعرّض جسدها لأشعة الشمس التي كانت كضيف عزيز، يُحتفى بزيارته بعد غيابه أياماً، جاءت رسالة من الطبيب المعالج على جوالها، أخبرها بعد أن اطمئن عن وضعها الصحي، أنه يوجد شبكة إعلامية بحاجة لمصمم يعمل معها، وأنه زكّاها عندهم، فهو يتمنى لها الخير، وقال لها مبدئياً سيكون العمل تطوعاً، كما هو الحال في مجالات العمل المختلفة في الشمال السوري، لكن حين يصبح للشبكة دعماً، ستتقاضى على عملها معهم أجراً.
رحبت غزالة بهذا الأمر بفرح، وحماس كبيرين، وشكرت الطبيب على صنيعه الذي كان بمثابة دفعة جديدة نحو مستقبل مشرق سعيد، تماماً على نقيض الماضي المظلم البائس.
أنهت كلامها مع الطبيب، الذي أعطاها رقم جوال مدير الشبكة لتتواصل معه، والتنسيق للعمل بالشبكة، ومباشرةً أرسلت رسالة لجاسم تخبره بأمر عملها، الذي هو أول خطوة في طريق استقلاليتها، واعتمادها على نفسها، أرادت أن يكون أول من تشاركه فرحتها، فهو أول فرحة لها في الحياة.