ريمة الخطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق
سنعرف في جزء اليوم ردة فعل بطلتنا غزالة تجاه اعتراف الأستاذ جاسم بحبه لها الذي جاء من أديم المستحيل……
كان وقت الظهيرة يدق أجراسه بحرارته المرتفعة، حين دخلت غزالة غرفة المحامل، وأشعلت المروحة، لتخفف من شدة الحرارة، أخرجت من خزانتها دفاتراً وأقلاماً، ووضعت جوالها بجانبها، حدقت بكل شيء أمامها، وقالت بصوت مسموع:
لعلها بداية لمرحلة جديدة تخرجني من هذه الأيام العصيبة بكل ما فيها من وصب. حملت القلم، وراحت تخط خطوطاً متفاوتة المقاسات، خطوطاً منحنية، وخطوطاً مستقيمة، وأخرى متعرجة، ترسم وتمسح، وتمزق الأوراق، فلم يعجبها ما كانت ترسمه يداها، وضعت القلم، وأخذت نفساً عميقاً، وقالت: لن أستطيع العمل، وأنا بهذا المزاج السيء، منذ خمسة أيام وأنا أحاول لكن دون جدوى.
حملت الجوال، وبدأت تكتب رسالة للأستاذ جاسم:
السلام عليكم، كيف الحال أستاذ، أريد أن أعتذر عن تصميم بطاقات للمطعم، لدي ظرف منعني. جاء رد الأستاذ جاسم فوراً، وكأنه ينتظر هذه الرسالة: أهلاً وعليكم السلام، الحمد لله بخير، حسناً، لا بأس، سأخبر صاحب المطعم بذلك.
أعتذر أستاذ، لقد تأخرت بالاعتذار عن العمل، ولم أنجز ما وعدت به، ربما أكون قد سببت تعطيلاً لصاحب المطعم! لا بآس، لا… لا أظن ذلك، أريد أن أخبرك أنه قد فتح مركزاً للمعالجة الفيزيائية في مدينة سرمدا كي تتابعي علاجك.
آه سرمدا!! أتمنى ذلك، لكنني لا أستطيع الذهاب، فالمسافة بعيدة، وسأعاني من المواصلات. نعم صدقت، المسافة بعيدة، أنا أذهب بسيارتي يومياً والحمد لله أشعر بتحسن كبير.
شافاك الله، وعافاك، أحسنت بمتابعة العلاج. سلمت، وإياكم، وأرجو أن يتاح لك متابعة علاجك أيضاً.
شكراً لك أستاذ. العفو، أستأذنك، السلام عليكم.
برعاية الله أستاذ. وضعت الجوال من يدها، وبدأت تتململ، وقد تسلّل الضجر لروحها الضائعة الوحيدة، تمددت، وحدقت بسقف الغرفة الواهن كبيت العنكبوت، وقالت: سبحان الله، من تحت سقف الإسمنت إلى تحت سقف العوازل، والأقمشة!… أين تذهبين بي أيتها الحياة؟!
صوت الهاتف المعلن قدوم رسالة جعلها تفزع، وتهب نحوه مسرعة، فتحت الجوال وإذا برسالة طويلة من الأستاذ جاسم:
لم أعد أستطيع كتمان مشاعري تجاهك، سأعترف لك بما يدور في خلدي، وأرجو أن يلقى كلامي لديك صدى طيباً، وأتمنى ألّا تزعجك رسالتي هذه، لقد لفتِّ انتباهي منذ أول يوم رأيتك فيه في المركز، وجذبتني ببراءتك، وخجلك النادر جداً، وسكنت تلافيف عقلي، وقلبي، وفي كل مرة، كنت أذهب بها للمركز، كنت أدعو الله أن أراك، وأتحدث معك، وحين كان يحدث ذلك، كنت أعود للبيت سعيداً منتشياً بكلماتك الرقيقة، كإحساسك العالي، ومنذ أن صار رقم جوالك عندي، وأنا أراقب ظهورك، وفي كل مرة كنت أهمّ بالتحدث إليك، وأتراجع في اللحظة الأخيرة، وحين أغلق المركز حزنت لذلك جداً، لأنني سأحرم من رؤيتك، ولوعن بعد… آنستي اللطيفة، أعترف لك بأنني أغرمت بك، وأحببتك منذ أول مرة رأيتك بها. تسارعت نبضات قلب غزالة، وتغشت عينيها ألوان باهتة، وانتابها ارتباك غريب هيج أشجانها، وغرقت بِحِيرة مبهمة ضائعة، لا هي فرحة بما قرأت، ولا هي حزينة! دخلت في متاهة متناقضة الأحاسيس لهذا الأمر الجلل، فوقع الجوال من يدها، التي راحت ترتجف كما باقي جسدها، الذي راح ينتفض بقوة. خرجت مسرعة، واتجهت نحو خزان الماء، فتحت الصنبور وراحت ترشق وجهها بالماء، وتسكبه على ثيابها، وكأنها تريد أن تصحو من حالة الذهول هذه. رأتها زوجة أخيها عبد الله، فسألتها مستغربة: ماذا تفعلين؟!… ألهذه الدرجة تشعرين بالحر؟!
نظرت غزالة لزوجة أخيها، لكنها لم تقدر أن تجيبها فقد انعقد لسانها، وخانتها الكلمات، ولكي تتجنب الإحراج أكثر راحت تحرك يديها وكأنها تحاول تخفيف الحرارة عن وجهها، وهي تومئ برأسها لها مؤكدة كلامها.
عادت للغرفة، وأغلقت الباب خلفها، ركضت نحو الجوال فتحته لتجد رسالة أخرى من الأستاذ جاسم فحواها:
أريدك أن تعلمي جيداً أنني أريد تتويج حبي هذا لك بالزواج، آنستي أنا أبحث عن زوجة تعيش معي، وتقاسمني أفراح وأحزان هذه الحياة، بعد استشهاد زوجتي لكنني لم أعثر على ضالّتي، لم أشعر تجاه أي امرأة ما شعرت به حين رأيتك، وأخيراً أقول لك بأنني سأكون سعيداً جداً إذا وافقتِ على طلبي، وبادلتني نفس المشاعر!!
لم تصدق غزالة ما قرأت، أمعقول أن شخصاً محترماً، ومعروفاً مثل الأستاذ جاسم يعجب بها ويحبها؟!
أو أنه ربما يريد أن يمضي وقتاً مسلياً معها!
هل سيكون غيمة حبلى بالسعادة، والأحلام!… أم سحابة صيف كتلك السحابات التي مرت بها مرور الكرام؟
دار جدال طويل بين قلبها وعقلها، قلبها المكتظ بالمشاعر، الزاخر برهافة الأحاسيس، والنابض بالأنوثة والعذوبة، وعقلها المروّض بسنين القمع، والاضطهاد، والذي تطبّع على أن غزالة شخصٌ مذموم غير صالح للحياة، شخصٌ خارج نطاق الحياة البشرية، لا قيمة، ولا أهمية لوجوده.
نفسٌ عميقٌ بصوتٍ عالٍ أنهى جدال الوجود، والعدم في روح غزالة، فقالت، وكأنها توجه الكلام لنفسها، التي مازالت تخطو خطواتها الأولى نحو تفاصيل الحياة المبعدة عنها:
لا، لست عديمة الفائدة، لست عالة كما أفهمتني أمي، لن أخضع لأحكامها، يكفيني ما لاقيت من جور، واستبداد منها طوال حياتي، لن أقبل أن تتحكم بأموري أكثر، لقد دمرتني بتسلطها، وجهلها، وضعفي، وإذعاني لها. أنا غزالة، لقد خلقني الله، وحباني بكل ما تتصف به الأنثى من لين، ورقة، وجمال، نعم جمال فهذه الندبة، وهذا العرج لا يلغيان أنوثتي وجمالي، من حقي أن أعيش ما تعيشه الفتيات من مشاعر، وحب، وإعجاب، سأعطي قلبي مساحة من الحرية ليمارس حقه بالتمتع بتلك الأحاسيس الوجدانية المجبولة عليها قلوب النساء. حملت الجوال، وأعادت قراءة ما كتبه لها الأستاذ جاسم، كررت ذلك كثيراً، وفي كل مرة كانت تنتابها مشاعر غريبة، وجديدة عليها، استجمعت قواها، وكتبت رداً له: أستاذ جاسم، أشكر لك كلماتك الجميلة، ومشاعرك الطيبة، لكنني أريد أن أعرف لماذا اخترتني من بين من كان في المركز، فهناك الكثيرات، وبعضهن أجمل مني؟!
ردً سريعٌ، جاء على سؤالها من الأستاذ جاسم:
آنستي، أشهد الله على كل كلمة قلتها، وسأقولها، حياؤك الملفت للنظر، وأخلاقك العالية، والتي لمستها من خلال لقاءاتنا القليلة، وطيبة قلبك الواضحة بشفافية، وصدق، كل هذا جذبني إليك، وزرعك في قلبي المعجب بكل تفاصيلك. قالت، بعد أن قرأت رسالته: يا إلهي، إنني أشعر بصدقه، إنه مغرم بي فعلاً، ليس كاذباً، إنني متأكدة من ذلك، كتبتْ له:
حسناً، بصراحة إنني متفاجئة بكلامك، أريد بعضاً من الوقت لاستيعاب كل هذا. كتب لها: لك كل الوقت، وتأكدي أن مشاعري تجاهك لن تتغير مهما كان ردّك، مع أنني أتوق لأن تلقى مشاعري لديك صدىً طيباً.
تنهدت غزالة تنهيدة كنار أتون مستعر، وقالت في سرّها:
_رباااه، إنه يحبني فعلاً وأطفأت الجوال، ورمت به جانباً، وحضنت نفسها، كطفل خائف من مجهول قادم.
لكن لماذا الخوف؟!
هي تجربة ستكون ضمن الحدود، وهدفها نبيل، وجاد، وقد تكون النهاية استقرار، وسعادة زوجية مع رجل خلوق، مهذب، كالأستاذ جاسم.
مضت تلك الليلة مرهقة، متعبة، على غزالة التي تاهت بين أحداث حياتها كلها بماضيها المظلم، وحاضرها المُنار بأحداث جديدة في العلن والخفاء.
تلابيب الوحدة الموحشة تمسكت بروح غزالة، التي تجنبت جميع من في البيت من أهلها، واقتصر كلامها معهم على السؤال والجواب، والأحاديث السطحية القصيرة، لذلك كانت غربتها مضاعفة بين أهل، أبعد ما يكونوا عنها.