بعد أن صرخت غزالة بوجعها، وواجهت أمها بكل ما آذاها من معاملة سيئة، وظلم طوال سنين حياتها، وقالت لها بصوت سمعه الجيران، والأهل جميعاً، بأنها لن تسامحها على كل شيء، وأنها دمرتها، وأكلت حياتها، وهضمتها بوحشية، وأنها ستحكي للعالم كله، بأنها من سجنتها، وحرمتها من الخروج من البيت، وعزلتها عن الدنيا، ستقول للناس أن أمها، كانت تحرمها من زيارات الأقارب، وتدعي أمامهم أن غزالة لا تحب الخروج.
لقد أعلنت للجميع، بأنها ستوافق على أي خاطب يتقدم لها، ولن تسمح لأحد بالتدخل في شؤون حياتها، أصبحت غزالة بعيون أمها، بنتاً عاقّةً، فاجرةً، لم تثمر فيها التربية، وأنكرت كل تعب، وشقاء غزالة طوال سنين عمرها المدفون في القرية!
كان لابد لذلك البركان الخامد لسنين طويلة أن يثور، وينفجر، فما تعرضت له غزالة من تنمّر، وعنصرية من أمها، كان ضغطاً قوياً سبّب ذلك الانفجار.
دخلت غزالة المركز، بعد أن طلبت من زيد ألا يتأخر عليها مثل البارحة، فهي تستحي من الوقوف في الشارع.
صوت ضحكة بشرى الجميلة، استقبلها بترحاب ومحبة، فابتسمت له، ولصاحبته ذات الوجه البشوش.
ألقت التحية على الجميع، واقتربت من بشرى لتسلم عليها، فصافحتها بشرى، وهي تقول:
أهلا بصديقتي الخجولة، إنني بانتظارك منذ ساعة، وأتبعت كلماتها بضحكة عذبة. صعدت غزالة الدراجة، حيث هي أول تمرين تقوم به كما قال الطبيب. نظرت لبشرى التي تقف على الآلة الحديدية، وتقوم بتمرينها المتعب، بشد ظهرها نحو الأسفل، لتخفيف النتوء البارز من ظهرها. بشرى: لماذا عيناك حمراوتان؟ أشعر كأنهما جمرتان ملتهبتان في وجهك الشاحب يا صديقتي!
تنهّدت، وأحست بأنها بحاجة للحديث مع بشرى، والبوح بما يثقل صدرها، لكنها مترددة، فهي لم تعرفها جيداً بعد، وهي التي اعتادت الكتمان، والانغلاق، والصمت، أمام الجميع مهما تعاظمت أوجاعها.
لكن بعد سقوط الأقنعة، تبدل الحال، وتحول الغموض، والتكتم إلى إعلان وبوح بشفافية، وخصوصاً أن الصدق والأمانة، والطيبة الواضحة في عيون بشرى جعل منها قريبة لقلبها، وحبيبة لها برغم الفترة القصيرة التي عرفتها بها.
وقفت بشرى، وهي تلهث وتتوجع، ثم اقتربت من غزالة الشاردة بصمتها الحزين، وهمست لها:
ما بك يا غزالة؟ مهما حاولت أن تخبئي، حزنك، فهو واضح على وجهك، وفي عينيك. نظرت غزالة بعيني بشرى، وقالت: إنني متعبة جداً يا بشرى، وأريد أن أتحدث معك، لكن المكان هنا ليس مناسباً.
نظرت بشرى للممرضة، التي تقوم بتدريبات لامرأة كبيرة في السن، بتحريك قدمها، ثم حدقت بأم علوش الذي يصرخ متألماً بين يديها، ثم نقلت نظرها للفتاة (المشبوحة) على الحائط، وألقت نظرة سريعة على باقي المريضات، ثم قالت:
ما رأيك أن تأتي معي لبيتنا حين ننهي الجلسة، أنا في البيت لوحدي أغلب الوقت. غزالة: تعيشين لوحدك؟
هههه، لا أنا، وأختي، وأخي، وزوجته، لكنهم يذهبون للعمل في الأرض التي ضمنوها من رجل من “سرمدا”. آه، فهمت، أهلك يضمنون الأراضي مثلي أهلي.
نعم، نحن نملك أرضاً زراعية كبيرة في بلدتنا، لكن جيش النظام استولى عليها كباقي أراضي المنطقة. منذ متى نزحتم؟
منذ ستة أعوام، لكن أمي وبقية إخوتي لم يأتوا معنا، إنهم يتنقلون من بلدة لبلدة، لأنهم يعملون في الزراعة. هل أنت متزوجة؟
لا لست متزوجة، وأنت؟ تصمت غزالة لبرهة، ولمعة الحزن في عينيها تشهر سيوف المقت، ثم تقول: لا، لم يأتي النصيب بعد.
قطع حديثهما صوت صراخ وبكاء أم علوش التي أغمي على طفلها بين يديها، وهي تمرّنه، علوش ابن السنتين، المصاب بضمور أثّر على نموه وحركته:
ابني ياد كتور، لقد مات ابني، أسعفوني مات علوش. فتح الطبيب الباب، ودخل مسرعاً، أخذ الطفل من يدي أمه والممرضة، وبدأ بفحصه، تحلق الجميع حول الأم المنهارة، دخل الرجل الطويل الأسمر من غرفة الرجال، وقف جانباً يراقب الطبيب، وهو يحاول إنقاذ علوش، وفجأة صرخ: أنقذوا ابني، قبل أن يموت، أنقذوا صغيري وأمه، اللعنة عليكم وعلى حربكم.
دهش الجميع بحال هذا الرجل، الذي بدا وكأنه في ساحة قتال.
فتح الطفل عينيه وبدأ يبكي، ضمته الأم لصدرها، وراحت تهدئه.
صمت الجميع، وتسمّرت عيونهم على الرجل الأسمر، اقترب منه الطبيب، بعد أن انتبه الرجل لنفسه، وبدا عليه الإحراج:
أهدأ يا جاسم، هذا علي، وليس ابنك رحمه الله. اقترب الرجل من أم علي، التي راحت تداعب صغيرها، ومدَّ يديه طالباً أن يحمل علياً، دونما كلام. نظرت أم علي بعيني جاسم اللتين ملئتا حباً وشوقاً لراحل عزيز، أعطته طفلها بهدوء، حمله وضمه لصدره بحنان غريب، وقال بصوت ممزوج بشجن معتق: حماك الله يا صغيري، ومنَّ عليك بالشفاء والعافية، ثم قبله، وأعاده لأمه، وهو يقول:
لا حرمك الله منه، شفاه الله، وعافاه لك. ثم اتجه نحو باب غرفة الرجال، هو والطبيب، لكن صوت بشرى أوقفهما: كيف مات ابنك؟
التفت جاسم إليها بعد أن وقف، وقال:
مات بعد أن وقع صاروخ على بيتنا في دير الزور، مات هو، وأمه، وأخواه. تأثر كل من في الغرفة لحديثه الشجي، وراحوا يحتسبون الله، أما غزالة فقد كان حديث جاسم مفتاحاً لفتح أبواب السد الذي حُبس خلفه آلاف الدموع. لم تستطيع كتم بكائها، فبكت بصوت عالٍ، وهي تقول: تبّاً للحرب كم هي ظالمة، تأخذ الأعزاء دائماً.
نظر جاسم لغزالة، التي كانت تبكي، وهي تخبئ وجهها بكفيها، والحياء يكسوها كثوب طهر نسج من رقة الأنوثة.
اقترب خطوة منها، وقال بهدوء:
هل مات لك عزيز بهذه الحرب؟ تفاجأت غزالة بجاسم، الذي وقف قربها يسألها، فارتبكت، وخجلت أكثر، وراحت تمسح دموعها، وتتمتم: لا، نعم، سوريا كلها عزيزة، وكل سوري من شعبها هو فقيد عزيز.
أسرعت، وابتعدت عن مكان جاسم، وراحت تتصنع أنها تبحث عن شيء في ثنايا حقيبتها.
انتبه الجميع لارتباكها وخجلها، لكنهم لم يشعروها بذلك، فعاد كل واحد لمكانه، وعاد الطبيب، وجاسم لغرفة الرجال.
اقتربت بشرى منها، وفي عينيها التعجب الرهيب من فعلها، أمسكت بيدها، وقالت هامسة:
_لماذا ارتبكت هكذا؟!… لِمَ ابتعدت عن جاسم، وكأنه يريد أن يفترسك؟!… لماذا هربت؟
سنعرف في الجزء القادم كيف استطاع الزائر الغريب أن يدخل قلب غزالة ويحطم أسواره المتينة ويبعث الحياة في القلب الحزين……