ريمة الخطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق
صوت إشعار الرسائل الذي علا في الجوال، أعاد غزالة من لجّة تفكيرها القاتل، حملت الجوال، ونظرت به ببطء شديد.
إنه أخوها سيف، الذي ابتلعته أفواه الغربة منذ ثلاثة عشر سنة، ولم يرَه أحدٌ منذ سبع سنوات، حين نزل للبلد آخر مرة تزوج، وأخذ زوجته معه، لكن زواجه وأولاده، وصعوبة غربته، والحياة في بلاد الخليج، لم تمنعه من إرسال المال للأم، فهو متكفل بأبناء أخيه، وأمها وإخوته، الذين مازالوا مع الأم يعيشون في بيتٍ واحدٍ.
استغربت غزالة من مراسلته لها في هذا الوقت المتأخر من الليل، فردّت على سلامه بسؤال:
خيرٌ، لماذا تراسلني الآن؟!… هل هناك خطب؟ يضحك سيف ضحكة صغيرة، ويقول: لا، لا تخافي، ليس هناك شيء، كل ما في الأمر، أنني أردت التحدث معك.
حسناً إذا كان هكذا الأمر لا بأس. غزالة بصراحة سمعت أنك تشاجرت مع أمك وأخواتك، وقد تعجبت من فعلك هذا، لقد كنت، دائماً، البنت الطيبة، والأخت الحنونة.
بصوتٍ عالٍ تضحك غزالة، وتنفر من عينيها دموع من جمر:
نعم صدقت، كنت طيبة، وهذا ما دمرني. دمرك؟
أجل دمرني، ودمّر حياتي، لن أقول شيئاً، أنا أختكم الشريرة، وأنتم الطيبون. ما هذا الهراء؟، أحكي لي ما حدث، وأريحيني، أريد أن أعرف سبب خلافك مع أمك وأخواتك.
هههه أمي، سامحني يا سيف لأنني لم أعد أشعر بأنها أمي، هي أمكم أنتم فقط! ماذا تقولين؟!… اِحكي لي ماذا حدث، وبسرعة.
لم يحدث شيء يا أخي، سوى أن أمي لو تستطيع منعي من التنفس لفعلت. غزالة… يكفيني لم أعد أحتمل أكثر، ماذا حدث؟
هههه لم تحتمل بضع كلمات فقط! أنا احتملت مالا تستطيع حمله جبال من غبن، وقمع، وجور… وبدأتْ تسرد كل ما كان من أمها بشأن خطبتها للطبيب، وكيف أنها أهانتها أمام زوجة أخيها والجارات، وجرحتها بتهمها الباطلة، وكيف أهانت أنوثتها، ونعتتها بما ليس فيها. قالت له بأنها تموت ألف مرة باليوم بسبب صدمتها بأمها وأختيها الكبيرتين، اللواتي كلما كانت تخطب عن طريقهن يقلن عنها بأنها (عاجزة) ولا تستطع الزواج، وتحمل مسؤولية الزوج، والأولاد، أخبرته عن فجيعتها بأخواتها كيف استطعن أن يقللن من شأنها أمام الخاطبين؟ من سمح لهن أن يتصرفن بأمور حياتها بهذه الجرأة؟ حكت عن مرارة ما تعرضت له حين استشهد زوج أختها شيماء، وكيف أن أمها أرادتها أن تقيم عندها شهوراً وأياماً، غير آبهةٍ لعدم راحتها بفعل ذلك، أخبرته كم صدمت بأمها التي أرادتها خادمة أبديةً للضيوف الكُثُر، ولزوجات الإخوة حين يلدن، أو يمرضن، فهي لا أهمية لها، وغير مهم تعبها أو غيابها عن البيت لمدة طويلة. بكت بحرقة، وهي تحكي كيف تنظر لها أمها، كيف تراها، مجرد مخلوق كلزقة جرح تذهب حين يجب أن تذهب الأم، وتقوم بمهامها، التي لا تحب القيام بها، كزيارة بناتها حين يمرضن، أو للقيام بواجب يترتب عليها القيام به، كأم وحماة. قالت بوجع كبير: طوال حياتي، أعلم أنها تراني عبئاً، ولا أهمية لي عندها، ولا قيمة، وأعلم بخجلها من وضعي، هي وأبي، لكنني لم أكن أعلم أنها تراني كحجرٍ مجردٍ من الأحاسيس والمشاعر!
كسكاكين حادة النصال غرزت كلماتها في قلب سيف فتلعثم، ولم تسعفه اللغة بالكلام، فاختفى بعد أن أغلق جواله.
شعرت غزالة بما حدث لسيف، وعرفت مدى صدمته بما أخبرته به، فصمتت، وراحت تمسح دموعها التي سالت على خدودها سواقٍ وأنهار!
بعد قليل جاءت رسالة من سيف، نظرت لشاشة الجوال وقرأت:
وماذا عن أخواتي، شيماء، وزهراء، وتيماء، لماذا حظرتيهن من جوالك، وخاصمتيهن؟ تتنهد غزالة، وفيض الدموع، مازال ينسكب عبرات: أما أخواتي، فصدمتي بهنّ كانت الضربة القاتلة، التي جاءت بعد صدمتي بأمي.
سيف:
أكاد أجن يا غزالة، أشعر أن الدنيا مقلوبة عندكم تبّاً للغربة، أكملي. كنت مرة أدخل الرقم السري لشبكتنا بجوال زهراء كي تتحدث مع زوجها، فجاءت رسائل وصور لزهراء من شيماء، وتيماء على جوالها.
توقفت غزالة عن الكتابة، فهي لم تعد تستطيع إكمال كتابة حروف كرصاص مسمومٍ جاءها من كل حدب وصوب، فاستبطأها سيف، كتب متسائلاً:
أكملي، لماذا توقفت عن الكلام؟ تنفست الصعداء، وحدّقت بوجه السماء الحزين كروحها الممزقة، وتابعت: كان حوار بين أخواتي الثلاثة، (أخواتي) يا أخي، وإني والله ما عدت أشعر بأنهن كذلك!
شيماء:
ما بها غزالة! لماذا تتحدث مع أمي بقلة أدب؟!…أهكذا تربينا؟ تيماء: تريد أن تتزوج، يا لها من وقحة، ألا ترى وضعها المزري؟
شيماء:
لقد أصبحت فاجرة، منذ أن سكنت في مخيم الأرامل، وعاشرت أولئك الفاجرات. تيماء: ولماذا سمحتم لها بالعيش هناك؟!… لو أنني كنت عندكم، لمنعتها من هذا!
شيماء:
أمي، هي من سمحت لها بذلك، كي تهتم بأمور أولاد أخينا، وتراقب تحركات زوجة أخينا اللعينة. زهراء: في القرية لم تكن غزالة هكذا، لقد تغيرت كثيراً، منذ أن نزحنا.
تيماء:
وجودي في بيروت لا يعني أني لا أعرف شيئاً، لقد سمعت الكثير عن تغير غزالة في المخيمات. زهراء: نعم لقد بدلت نوع الحجاب، وأصبحت ترتدي ثيابا ملونة، وهي التي لا ترتدي غير الأسود، والألوان القاتمة طوال حياتها.
زهراء:
تبّاً لها من وقحة، لقد واجهت أمنا بطلب زواجها، إنها لا تستحي.
تيماء:
نعم تزوجنا جميعاً، ولم نجرؤ على الخوض بهذا الأمر مع أبوينا! زهراء: زوّجنا أبي، وحتى لم يأخذ رأينا بمن تزوجنا منهم، وهي تتبجح بطلب الزواج بدون حياء!
شيماء:
إنها لا تستحي، عاجزة، وتريد الزواج!… تبّاً لها من فاجرة! خرجت هذه الكلمات من قلب غزالة المحطم بفعل جور، وظلم أمها، وأخواتها، واعتدائهن عليها بكلام مجرد من الرأفة والرحمة، وكأن من يتفوه به عدوٌّ عتيق، وشامتٌ كافر! تنفست بعمق، وكأنها تسترد روحها، التي خرجت مع تلك الكلمات الجارحة، وقالت بهدوء ميت: لن أستطيع أن أحكي لك باقي حديثهن، سامحني لا أستطيع.
سيف:
حسناً اهدئي، ونامي، أعرف أنك تبكين الآن، نامي وارتاحي. كيف ينام من هدمت جميع سدوده، وحطمت قلاعه المنيعة، وتشردت اعتقاداته الرصينة والرزينة، وتاهت بين واقع مخيف وحلم جميل؟ ولأن النوم فرّ من عينيها، كطير سجين، فتح باب قفصه، وحلق بعيداً، بعيداً، فتحت جوالها وراحت تتأمل تلك الصور التي التقطتها بكل حبّ، وود لأخواتها، وأولادهن الذين كبروا في قلبها كشجرة صغيرة رعتها بحبٍّ، وحنان أمّ ذات رحم لم تبعث فيه الحياة بعد! ها هم أولاد تيماء أختها الأصغر منها، والتي سافرت مع زوجها، وأولادها لبيروت، منذ أول اندلاع الثورة في سورية. خمسة أولاد ذكور كشموع اشتعلت براءةً، وجمالاً ملفتاً، كانت تجمعها بهم أجمل آيات الحب، والصداقة، فكم زارتهم، وقضت معهم الأوقات الجميلة!!… وكم سهرت معهم تسامرهم، وتروي لهم الحكايات، حين كانوا يقومون بزيارة بيت الجد. وقعت عيناها على صور زهراء، وأولادها الصغار، الذين عاشت معهم غزالة كل تفاصيل الحياة، منذ ولادتهم، وإلى آخر لحظة، قبل أن تقرأ تلك المحادثة الفتاكة. فبيت زهراء، كان قريباً جداً من بيت أهلها، لذلك كان تواصلهم مستمراً ليلاً ونهاراً، وأولاد زهراء، دائماً يزورون بيت الجد، ويقضون وقتاً سعيداً مع الخالة الطيبة، والتي كانت تشتري لهم أطايب الحلويات، والألعاب، التي كانت تفاجئهم بها، كانت تفرحهم جداً، لذلك كانوا أول من يسألون عنه في بيت الجد هو الخالة غزالة. برغم أن غزالة لم تكن تملك المال الوفير لتشتري ما يسعد أولاد أخواتها، إلا أنها كانت تؤثرهم على نفسها، فتوفر ما يصل إليها من صدقات، وزكاة، وتخبئه بعد أن تشتري بعض الأدوية التي تحتاجها. صور أبناء شيماء التي أخذت حيزاً أكبر في الجوال، كانت الأجمل، وذلك لكونهم الأبعد مسافة عن الجميع، فشيماء التي كانت تسكن في الحسكة مع زوجها المتطوع في الشرطة، كانت لها ولأولادها الأولوية في كل شيء، فالشوق لها، ولأولادها، كان ينبض في قلوب الجميع، ومازالت تلك المكانة في القلوب لهم حتى الآن، فبعد النزوح، وباستشهاد الأب بعد انشقاقه عن النظام، بعد كمين نصبه له ورفاقه عناصر النظام على جبهة كفرزيتا، فأصبحت شيماء أرملة ترعى أولادها الخمسة، وهذا ما جعل من مكانتهم أقوى، وأعلى عند بيت الجد. تذكرت سعادتها حين كان أولادها يتسابقون، ويتشاجرون على النوم بفراش الخالة. بين زحمة كل تلك الصور في الجوال، تباينت صورٌ قليلة للأخت الكبرى وصال، والتي انقطعت علاقتها بغزالة من سنين، وذلك لأن المال يغير النفوس، ويقطع العلاقات الواهية، ويصدأ معادن البشر ذات النوع الرديء. في تركية، ومنذ أول نزوح، وصال وعائلتها هناك، فتحت أمامهم أبواب المال، والعمل، فتبدل الحال، وامتلأت الجيوب، واغتنت النفوس الفقيرة (وبان الأصل غير الأصيل على حقيقته). فبدأ التعالي والتفاخر، وشيئاً فشيئاً انقطعت حبال الوصل وتراخت خيوط الوداد، وتكسرت صوامع القرابة الزجاجية على قطع النقود الجديدة! وجف الدم من العروق، وهجر ذلك الوطن الصغير الذي ضم يوماً ما كل تلك الأخوة، فمات بعد تفرق ساكنيه، وتغيرهم، (مات الرحم). صورة شادي بالبدلة العسكرية قبل أن ينشق عن نظام الطاغية، كانت قد زينتها بالورود، والقلوب الحمراء، فشادي أول حفيد للعائلة من الابنة الكبرى، وحبيب الجميع، وربيب غزالة، ومدللها، فكم تركته أمه عندها للاعتناء به ريثما تعود من الحقل، كم غنت له، وهي تنوّمه، وتهزّ له بسريره الدافئ: طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان…
كم مرة كادت أن تقع على الأرض، وهي تسرع بتحضير رضاعة الحليب، كي يرضع ولا يبكي؟
كم ضحكت معه، وهي تلاعبه، وكأنها طفلة في عمره؟
كم من الأوقات الجميلة قضتها معه، وهي تناغيه، وتلاعبه اللعبة الذي أحبها كثيراً!
تمسح كف يده، وتعد على أصابعه الصغيرة، وتقول:
_يا باح يا باح، يا ورق التفاح…
التحق شادي بالخدمة العسكرية، ومازال يسكن في فؤاد غزالة، ودعواتها له بأن يحميه الله من جور الضباط والعسكريين، الذين سيكون في القطعة العسكرية عندهم، وتحت إمرتهم، وما زاد خوفها عليه بداية الثورة في البلاد، وما شاع عن النظام من بشاعة معاملة للعساكر السنة، لكن حين بدأت عملية انشقاقه، وتهريبه من قطعته العسكرية في دمشق لريف حماة، فقد عاشت غزالة على أعصابها أسبوعاً كاملاً، حيث تم تهريبه من قبل الثوار، وعلى مراحل، لكثرة انتشار حواجز النظام على الطرقات، فكانت عملية انشقاق ناجحة بفضل الله، لكنها شاقة جداً، وكادت أن تنهي حياة شادي لشدة خطرها.
في الجزء القادم سنكمل مع غزالة مشوارها الطويل في اكتشاف المزيد من الحقائق التي كانت تصفعها وتجعل منها شخصية جديدة.