ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كان الظلام دامساً، والبرد أشد من حد السيف، وجميع من في مغارة “الحاج صطيف” خائفون، كانت المغارة كبيرة واسعة، حفرتها أيادي الطبيعة منذ القدم في صخر أرض ديار الحاج صطيف، كغرفتين كبيرتين مفتوحتين على بعضهما توزع تصميمها، وفي صدرها حفرت صخرة ممدودة على طولها، وكأنها مقعد طويل.
كانت تتسع لكل أهل الحي، وأحيانا يأتي من الحي الجنوبي من يختبئ فيها أيضا حين يكون القصف عليه.
هذه المرة غصت المغارة بالناس أكثر من كل مرة، فاليوم تتعرض البلدة لهجمة شرسة من قوات نظام الأسد على البلدة والبلدات المجاورة، وذلك بسبب أسر ضابطين منهم، وتكبيدهم الكثير من الخسائر في المعدات من قبل ثوار المنطقة.
كانت القذائف تهطل كالمطر على البيوت، والصواريخ تخترق الأرض وتحفر قبورا جماعية، أما الطائرات والبراميل، فكانت تخلّف مجازر محققة أينما وقعت.
اختبأ أهل البلدة في المغارات والأقبية، وفي سراديب صغيرة كانوا قد حفروها توقعاً لهذا اليوم.
أشعل الحاج صطيف ضوءاً ليزرياً ليكسر تلك العتمة التي زادت من الرعب في القلوب، وجعلت من الأطفال يبكون و يصرخون.
من بين الأصوات الهامسة بالأدعية والمتضرعة لله سائلةً اللطف والنجاة من أفواه الرجال والنساء تسللَ لأذني الحاج صطيف صوتُ نفسٍ يُسحب بصعوبة، ويزفر أوجاعا عتيقة، أخذ ينصت بدقة، ليعرف من صاحب هذا الصوت.
وقعت عيناه على امرأة عجوز أسندت ظهرها لصخر المغارة، وقد لفّت رأسها بشال صوفي صغير نسجته يداها السمراوتان.
عيناها اللتان تعلقتا بسقف المغارة كانتا ترسلان رسائل استغاثة للسماء، بثقة أن سماكة صخر المغارة لن تقف حاجزا أمام استغاثاتها.
مشى الحاج صطيف نحوها قافزا فوق الأرجل والأيدي والأجساد الصغيرة التي تمددت في أرض المغارة، قرَّب الضوء منها أكتر ليتأكد منها، يا إلهي، إنها أم سليمان، “قابلة” البلدة!!
إنها امرأة طاعنة في السن مريضة، تعاني منذ سنين من الربو، ليس لديها أحد، لأنها لم تنجب الأولاد، وزوجها قُتل على يد عساكر قوات نظام الأسد في مداهمة للبلدة.
صرخ فزعا بعد أن رأى وجهها المختنق والمكمّد وكأنها تنازع:
- أم سليمان مابك؟!.
نظرت إليه، وهي تشهق أنفاسها البطيئة، وقالت، وهي تشير لباب المغارة: - هو.. هو.. هواء..
أدرك أن نوبة الربو قد سيطرت عليها من جو المغارة الخانق، أمسك بيديها وسحبها نحو باب المغارة، وضعها أمامه وصرخ: - إبتعدوا قليلا أم سليمان تكاد تختنق.
فبدأ الجميع يفسحون لها المجال، فهذا طوى ساقي ابنه، وتلك وضعت طفلتها النائمة في حضنها، وآخر وقف ليأخذ مساحة أقل، وبأحرف متقطعة، وكلمات ثقيلة قالت أم سليمان: - أخرجوني من المغارة، أريد هواء إني أختنق.
راح الحاج صطيف ينقل نظره بين باب المغارة وأم سليمان ومن في المغارة، كان من المستحيل أن يخرجها، ويعرضها لخطر أكبر من نوبة الربو تلك، لكنها لم تتوقف عن التحدث بعينها وطلب الخروج، مما أوقع الحاج صطيف في حيرة وخوف عليها،.
صاح أحد الموجودين: - أخرجها يا حاج، إنها تختنق.
وصاح آخر: - لكن إذا خرجت فربما تتعرض لخطر أكبر.. ألا تسمعون أصوات القصف؟
كان نقاشا مصيريا ممزوجا بالحيرة والتردد والخوف على روح قد تفارق الحياة بأي لحظة، أما أم سليمان فقد كانت ترزح بين الألم والاختناق،
تصارع بمعركة البقاء تحت جحيم الرعب.
أصوات القصف والانفجارات ووحيف البراميل امتزجت بأصوات البكاء والنحيب والعويل، حين ارتفعت روح أم سليمان للسماء تحمل رسائل ضعف وقهر وكل ما تكابده نفوس من في المغارة.