ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
من بين الأشجار المحيطة بنهر العاصي تَسَلَّلْتُ كلصٍّ محترفٍ في ظلمة ليلة شتائية غاب عنها ضوء القمر، وصلت لغرفة صغيرة مهجورة كانت مبنية على ضفة النهر لناطور البستان، حيث كان الاتِّفاق مع عصام حبيبها الذي تعلقت به منذ أن رأته أول مرة منذ سنتين، حين كان ينزل مع إخوتها إلى مناوبتهم في الرِّباط.
عهد وحيدة أمها والأخت الوحيدة لإخوانها الشباب الأربعة، مدللة الجميع، وهذا ماكان يزيد من جرأتها وقوة شخصيتها،حتى بعد وفاة الأب الذي كان يقول عنها (عهد قطعة من روحي).
كان عصام كالعادة بانتظارها في غرفة البستان وقد جهز لها هدية صغيرة، فهو يعلم بحبها للهدايا، كانت عبارة عن زجاجة عطر ياسمين، فهي تعشق الياسمين و رائحته.
دخلَت الغرفة التي كانت مضاءة بشمعتين كبيرتين، وفرشت أرضها بحصير، وقطعة من سجادة قديمة لتخفف من برودة الأرض، جلسا على ضوء الشموع التي كانت تنير بريق عيونهما التي باحت نظراتهما بكل شوق مكنون داخل الحنايا:
-متى ستكلم إخوتي بأمر خطبتنا؟… أول جملة نطقت بها، وتابعت:
-ألم تقلْ لي بأنك ستخبرهم رغبتك بخطبتي حين تعودون من الرباط هذه المرة؟، لقد انتظرت عودتكم بفارغ الصير.
ابتسمت عيناه، وبعد تمعن أكثر بها قال:
- نعم لقد وعدتك، لكن حين كنا على الجبهة نقاتل، لم يكن هناك وقت لفتح هكذا أحاديث، لقد خضنا معركة كبيرة أنستنا الدنيا ومافيها، وكان تفكيرنا محصوراً بالثبات والنصر.
قالت والدلال يقطر من نبرة صوتها: - نسيت الدنيا!!، ونسيتني أنا أيضاً؟…
فضحك بصوت عال، ثم كتم صوته وقال: - لا، لم ولن أنساك حتى وأنا تحت التراب.
اِلْتفَّ الإخوة الأربعة حول طبق طعام الغداء، الذي كان مميزاً ذاك اليوم، بعد غيابهم خمسة عشر يوماً.
كانت عهد أول من ينتهي من الأكل، هبَّتْ مسرعةً لتصنع الشاي الذي يحبه الإخوة من يديها، قدمته لهم وجلست تتبادل الأحاديث معهم، وتنتهز فرصة حديثهم عن تفاصيل معركتهم بذكر صفات عصام، قاصدة بذلك تزكيته عندهم، ومدح خصاله، مع أنهم يعلمون أن عصاماً شاب خلوق، محترم، وقد التحق بالثوار لنصرة الحق، ونيل الحرية والكرامة.
البرد القارص في هذه الليلة لم يكن مانعاً لقاء عهد وعصام.
فغداً سيذهب مع الإخوة للرباط، وكما جرت العادة يجب أن تودع عهد عصاماً.
أمسك عصام يديها المرتجفتين من البرد، والخائفتين من شرّ عيون الليل التي تخاف أن تراها في طريق ذهابها لغرفة الناطور، قال وهو يستشعر دقات قلبها وهي تتسرب من مسامات جلدها لتستقر في قلبه النابض بحبها أبداً: - هذه المرة سأخبر إخوتك بأمر خطبتنا، سأقول لهم أنني سآتي مع والدي وجاهة من رجالات البلدة المعروفين، لأخطب أجمل فتاة على وجه الأرض.
يتقاطر الخجل من عينيها لينساب حمرة على وجنتيها الناعمتين، ويزهر حباً ممزوجاً بالأمل والرضى.
مرت الأيام الخمسة عشر، وعهد ممتلئة بالأماني والفرح الواضح بعينيها على غير العادة، فهي على موعد مع السعادة التي وعدها بها عصام، وتحقيق حلمهما بأن يتوج حبهما بالزواج، والتنعم بلذة اللقاء والاستقرار في بيت الزوجية الذي طالما كان حلماً وردياً يسعيان إليه.
تضاربت الأخبار وتعددت الروايات التي وصلت للبلدة بخصوص آخر معركة بين الثوار وميليشيات النظام، فمنها ما يقول أن النظام قد قتل الكثير من الثوار، ومنها مايقول أن الثوار قد تقدموا وأحرزوا انتصارات عظيمة.
هذه الروايات زرعت في النفوس الهلع والقلق على الشباب، فلا يكاد يخلو بيت من ثائر أو ثائرَين انضموا للفصائل ليحموا الأرض والعرض.
على جمر الانتظار، ولوعة خوف الفقد قبع الناس ينتظرون من يعود من تلك المعركة ويخبر بما كان.
كان مصاب البلدة جللاً في هذه المعركة، فقد استشهد اثنا عشر شاباً، وتعرَّض سبعة آخرون لإصابات خطيرة، وقد توزعوا في المشافي الميدانية للعلاج.
لم تتحمل عهد خبر استشهاد إخوتها الثلاثة وعصام، وأنه لم يبقَ لها سوى أخيها الكبير، فانهارت أعصابها ونُقلت للمشفى، لم تستطع تقبل فكرة أنها فقدت حبيبها وإخوانها الثلاثة بلحظة واحدة!!.
بقيت في المشفى لثلاثة أيام تائهة تحت المهدئات والمسكنات، غارقة في متاهات اللا شيء.
وبعد أن هدأت روحها كهدوء طير بعد رفرفة كانت بعد أوجاع الذبح، أخرجت من المشفى وعادت إلى البيت، بقيت شهرين لاتخرج منه، ساكنة، قابعة في صمت كئيب، لم تفلح كل محاولات أمها وأخيها بإخراجها منه.
في ليلة دامسة الظلام، شديدة البرودة، انسحبت من البيت بعد أن نام الجميع، وشقت طريقها نحو غرفة الناطور، لكن هذه المرة لم يرافقها خوفها المعتاد، لم يكن معها سوى الجراح الدامية القابعة في أعماقها، تلوم الحرب التي تأخذ من يسكن الروح، ويأخذها معه حين يغيب.
دخلت الغرفة، أشعلت شمعة، مررت نظرها على محتوياتها القليلة، الحصير، نصف السجادة، بقايا الشموع، بعض العيدان وأوراق الشجر، وكبركان أخمد طويلاً انفجرت بالبكاء في لحظة شوق وحنين، صرخت غير آبهة بشيء:
- عصاااااام… مازلت أنتظر أن تعود من معركتك الأخيرة…