ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
ها هو الصبح يتنفس من ثقب باب الزنزانة، ويرسل لنزيلاتها رسائل الحياة من جديد بعد ليل طويل قضينه، وهنَّ يصارعن وحوشاً بشرية من أجل البقاء فوق أرضٍ خرجن يطالبن بتطهيرها من دنس المغتصبين.
كانت أم عبد الرحمن تصلي صلاة الضحى حين صرخت ياسمين متألمة، أنهت صلاتها واقتربت من ياسمين متلهفة، وقد التفّت باقي المعتقلات حولها:
ماذا؟! هل زاد الألم يا ياسمين؟ تنفّست متوجعة: نعم ياخالتي، المغص يتزايد سريعاً، أشعر وكأن جسدي يتمزق!!
نظرت أم عبد الرحمن لمن حولها، تنهدت وقالت:
-إنه المخاض، هيا يا أخواتي، ساعدنني كرمى لله.
قامت المعتقلات الثلاث وعشرون، وقفن ملتصقات ببعضهن، من ناحية باب الزنانة، ووجههن نحو الباب، وراحت أم عبد الرحمن تولِّد ياسمين.
لم تستطع ياسمين أن تكتم آلام الولادة الشديدة، فعمرها أصغر من تحمّل ألم خروج روح من روح، فهي إبنة الخمس عشرة سنة،
اعتُقلت على إحدى حواجز النظام الذي تمركز في بداية طريق القرية، حين كانت ياسمين عائدة من المدرسة هي وزميلاتها، وهن يغرّدن أناشيد الثورة (هزتني صرخات الثكالى)، و(ياحيف)، اعتقلت مع سبع طالبات من القرية، تم توزيعهن على الزنزانات بتهمة الإساءة لعناصر الأمن أثناء تأدية واجبهم بحفظ الأمن.
رغم بحث أهلها الدؤوب عليها في المعتقلات وأفرع الأمن، إلا أنهم لم يعثروا لها على أثر، ففقدوا الأمل ببقائها على قيد الحياة كما باقي رفيقاتها.
احمرَّ وجهها الصغير، وجحظت عيناها من قوة الألم، وراح العرق يتصبب منها بغزارة، ملأ صراخها المكان، ليؤكد لكل من يسمعه، أنه ثمة بين جدران هذه المقابر أرواح مازالت تأبى الاستسلام.
كانت أم عبد الرحمن تساعدها وتقرأ لها آيات قرآنية وتدعو لها، وهي تمسح دمع العجز والأحزان أمام عظيم مايجري.
أما الساتر البشري اللواتي تخدّرت أقدامهنّ لوقوفهنّ طويلاً، فقد رحن يبتهلن ويتضرعن لله بتيسير ولادة ياسمين، الطفلة التي اغتصبت وحملت في المعتقل، وهي الآن تلد ابناً لن تعرف ماذا ستقول له حين يسألها من أبوه؟!!.
صوت سجّانٍ صدح من خلف الباب:
-ألم تلد بعد عروسكم الصغيرة؟!.
صاح آخر ساخراً:
_لا تخف ستلد، إنهن شرسات ولا شيء يصعب عليهن، أنسيت كيف جرحت سيدي الملازم أبو رائد تلك الليلة؟، إنها لبوة صغيرة، ويالها من لبوة، وقهقه باستهزاء.
ساعات من الوصب والأنين، متخلّلة بصرخات مستغيثة، بدموع براءة مزجت بوجعٍ لفّ حول حياة ياسمين كحبل مشنقة سجينٍ محكوم عليه بالموت شنقاً كل يوم.
كانت ثقيلة على طفلة وجدت نفسها بين ليلة وضحاها أمام مصاب جلل، وحدثٍ هزَّ أركانها، بغمضة عين ستصبح أُماً لطفلٍ تعجز عن معرفة أبيه.
ستكون أُماً، وهي الطفلة المخطوفة من حضن الحنان، والمحرومة من الأمان، الضائعة في لجّة المجهول.
صرختها القوية كرعد في قمم الجبال، أعلنت ولادة ابنها المجهول النسب، في حضن المعتقل، وحضن أم لم تفطم عن صدر أمها بعد!!.
علت أصوات البكاء فرحاً بخلاص ياسمين من ولادة القهر، وحزناً عليها من الضعف والانكسار، في زمان الفصل بين حاضرٍ مغتصَب، ومستقبل مرجوٍّ بنصرٍ مؤزر.
- اعجاب
- أصدقاء
القادم بوست
قد يعجبك ايضا