صمود

0 212

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق

كان الضوء، يتسلل من شقوق النوافد، لِيَحُطَّ على العيون النائمة، ويعلن بداية يوم جديد.
صوت إطلاق رصاص كثيف، وأصوات المجنزرات أحدثت ضجيجا مفزعا، وكجراد غاضب هجم جيش من عناصر النظام في الحي،
في مداخل الأبنية، على السلالم، بين البيوت، على الأسطحة، الحي كله تطوق بسلسلة من أسلحة ونار.
حملة اعتقال كبيرة، لم ينجُ منها شيخ كبير، ولا طفل صغير، ولا امرأة،
لم أستطع معرفة من كان معي بالمصفحة من نساء الحي، فقد عصبوا عيني، وقيدوني، لم أسمع سوى أنين نساء مغلوبات، قطعت خلالها دروباً، ودخلت أماكن مبهمة المعالم، نزلت أدراجا كدت أقع من فوقها مرات عديدة.
أحيانا كنت أمرُّ على أماكن أشتمُّ منها روائح مزعجة، وكأنها مقبرة تفسخت أجساد من دفن فيها، ونبشت من تحت التراب، وأحيانا أخرى يتسلل لسمعي أنين لجرحى تهالكت أرواحهم تحت التعذيب.
انتهى المسير بي وبمن معي من معتقلات، إلى مكتب العقيد أبو ثائر،
فكُّوا عصاب العيون الدامعة والخائفة، ليتجلى أمامنا ماتوجَّسْناه طوال طريق مجيئنا إلى فرع الجوية.
كنا ثلاث عشرة معتقلة، بأعمار مختلفة، كنت أكبرهن سنا، كان الشر المترصد لنا في عيون العميد، كوحش بأنياب حادة، ومخالب فتاكة:
أهلا بنساء بابا عمرو، أهلا بأمهات الأبطال الذين خربوا البلد، وقتلوا أبناءه، تريدون الحرية!!، تريدون إسقاط النظام!!، وأنتن تدعمن هؤلاء المخربين يا ساقطات، قسما برأس علي سأربي “فيكن” كل نساء سورية، وكل من تفكر بكلمة حرية.وانفجر مزمجرا: ياحسن، ارميهن بالزنزانة، ولمدة ثلاثة أيام، بدون طعام، فقط ماء، طبعا مع ضيافتنا المعتادة، وقهقه ضاحاً بحقد.
كنا نطوي أقدامنا المتورمة من شدة الضرب، ونحضنها، ليتسع لنا المكان، فالزنزانة أصغر من أن تتسع لكثرتنا، كنا نشبح، ونصعق، ونضرب بوحشية، ونقذف بالشتائم، وأقسى مايمكن أن نسمع من كلام نابٍ، غير محتشم كانوا يرموننا به، ونشعر بأنهم يتلذذون بتحقيرنا، والتفاخر بقوتهم ومناصبهم،
وكم كانوا يصيحون:
أين ثواركم؟!، أين المخربين؟، فليأتوا ليخلصوكم منا، أم أنهم لا يأبهون لأعراضهم المسلوبة، مرة واحدة لم أستطع تحمل شتمهم، وكلامهم المستفز، وبعد أن اغتصبوا أمامنا جميعاً صبية صغيرة فتية، صرخت في وجوههم رادعة: قاتلكم الله، كفوا عن إهانتنا، ألا تخافون الله!!، اليس لديكم أمهات وأخوات وبنات؟!., كفوا عن تعذيبنا أيها الوحوش.
وهنا ثارت ثائرتهم علينا، وخصوصا علي.
اقترب مني أحدهم، ودفعني لأسقط أرضا، شدني من شعري، وراح يسحبني على أرض ممر السجن ذهابا وإيابا، وأنا أصرخ مستغيثة بالله:
_يالله.. يالله.
في لحظات القهر والظلم، و جنون الكبت والقمع، نسيت كل معتقلة رأتني بهذه الحال، وأنا امرأة كبيرة.
شراستهم، وفتك أسلحتهم، وحقدهم الدفين، وكرصاصة حق، اندفعن نحوه، أبعدنه عني، وخلصنني من براثنه،
لكنه لم يصمت أمام مافعلنه، فصوب البندقية نحونا جميعا، وراح يطلق الرصاص، وكوريقات خريف عتيقة رحنا نتساقط، واحدة واحدة،
فمنا الجرحى، ومنا من استشهدت، وأنا الآن، أتنقل من فرع لفرع، أتعاقب على جرائمي العديدة، وأكبرها أنني من بابا عمرو!!…

قد يعجبك ايضا