أنياب الحقد.

235

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كان الجوع ينهشني و يأخذ مني حيويتي حين دخلت بيتنا وأنا أنادي:
_ أمي… أمي… أريد أن آكل، إنني جائعةٌ جداً.
ووضعتُ حقيبتي المدرسية بسرعةٍ متّجهةً نحو المطبخ.
صُدِمْت برؤية أبي وإخوتي الصغار بين رجال النظام، والبنادقُ مصوبةً نحوهم، شهَقت وتراجعت خطوةً للوراء، أوقفني صوت أحدهم:
أهلاً بالثائرة الصغيرة، أهلاً بالشجاعة التي خلّصت أهل الحي من الضابط البطل أبو همام. لم يكن باستطاعتي فعل أي شيء، حتى أن الكلام رحل مني كرحيل الدخان. تقدّم مني وهو يضحك وأمسك بيدي ثم نظر لأهلي وقال: هذه اليد التي قتلت سيادة الضابط ستُبتر.
صرخت أمي باكية:
لااااا… ثم هدأت مستدركةً ضعف موقفنا: إنها طفلةٌ ياسيدي، إنها في الثالث إعدادي، وهل تستطيع طفلة حمل السلاح! وقتل أحد؟!
زمجز واعزاً:
اصمتي أيتها الكاذبة، كلّكم خائنون، جنّدتم أولادَكم لزعزعة أمن الوطن وإقلاق راحة الساهرين على أمنكم، تخرِّبون البلاد وتقولون سلميّة، تهرّبون السلاح لتقتلوننا به وتُنكرون إجرامكم أيها السفلة… تابع بعد أن اقترب من والدي: سنخرج الآن من هنا، وأيّة حركةٍ ستُقتل طفلتكم كما تقولون.
خرجنا من البيت نحو سياراتهم، كانت عيون أهل الحي تراقبني بعجزٍ تام، تلاحق خطاي الخائرة والخائفة متعاطفةً معي ومع أهلي الّذين لاحت بعيونهم طقوس عزاء.
شعرت بالرعب يطوقني ويخنق أنفاسي حين كنت أجتاز معهم ظلمة الزنزانات، وأسمع أصوات التعذيب تعلو تارةً وتهدأ تارةً أخرى، وكأنها أرواح تخرج من أجساد غارقة.
في ممرٍّ ضيّق رَسمت على جدرانه الدماءُ المتخثّرة أشكالاً ورسومات غريبة، تخيّلت خالي الذي قتلوه حين داهموا الحي في منتصف الليل منذ شهر، ورسمٌ آخر تراءى لي كشخص ابنة الجيران سمية، والتي ماتت بعد أسبوع من خروجها من المعتقل، بعد بقائها لشهرين فيه بتهمة إيواء المخربين.
نسيت الجوع الذي شعرت أنه يحنو عليَّ ويخفف وطأته على جسدي الذي ذبُل في برودة زنزانة ضمَّت طفلةً وامرأة في عقدها الأربعين.
رمَوا بي لأقع في حضنها الدافئ رغم برودة المكان، كان كلامها كبلسم لجراحي:
لاتخافي يابنتي، أنا وابنتي هنا منذ شهر بتهمة مساعدة الثوار بتقديم الطعام لهم، اعتبريني أمّك ريثما تخرجيين من هنا وتعودين لحضن أمك وأهلك. قطع حديثها الذي آنست به وحشة ما أنا فيه صوت مفتاح الزنزانة ودخول أحد العساكر: هيه أنتِ…قومي تعالي معي… وأشار لي.
وقفت وتقدمت نحوه وأنا أنظر للخالة وابنتها وكأنني أودعهما، ابتسمت لي وتراقصت بعينيها نظرة حبٍّ تسربت لروحي المتعبة كشربة ماء لظامئٍ في عرض صحراء.
ثلاثةُ ضباطٍ جلسوا يأكلون المكسرات ويشربون الخمر ويضحكون كالمجانين بصوتٍ عالٍ مرعب، شعرتُ أنها النهاية وأنني لن أخرج حيةً من هذا المكان.
قال أحدهم بعد أن تجشّأ بشكل مقرف:
اقتربي واحكي لنا كيف قتلت الضابط بالقناصة، ومن طلب منك فعل ذلك؟، هل علّمك خالك استخدام القناصة قبل أن ينفق ذلك الحيوان؟!، ومن قتلتِ من قاداتنا الأبطال مع خالك الخائن؟!. تسمّرت عيناي على صحن المكسرات وصحن الخيار بعد أن أعلنت استسلامي للجوع: أريد أن آكل من الصباح لم أتناول شيء.
ومددتُ يدي نحو الطاولة غير عابئةٍ بكلّ الأخطار المحدّقة بي.
ركلةٌ قوية فاجأتني كان هدفها بطني قذفتني في زاواية الغرفة.
وقحة… سأجعل منك عبرةً لجميع سكان حيك المتمردين. ياعسكري… أعدها للمنفردة وغداً ائتني بها لأنتزع منها المعلومات، لا أريد أن أعكّر جلستنا الجميلة، وضحكةٌ مدويةٌ خرجت من أفواههم جميعاً.
قضيت ليلة أتلوى فيها بين أنياب الجوع الحادة، وبين وحدتي في المنفردة، وحذري المميت من تلك الحشرات التي استوطنت منفردة السعير هذه.
في اليوم التالي أخذني نفْس العسكري لغرفة كبيرة وراح يقول لي:
_هنا ستصعقين بالكهرباء، في هذا الدولاب سنحشرك ونجلدك، وفي هذا الباب سنربطك من شعرك الحريري، وأنت ستعترفين بكل مانريد معرفته.
شعرت بالدماء تجف في عروقي التي شارفت على الهلاك، دخلنا مكتب الضابط، وقبل أن يوجّه لي أي سؤال قلت له:
سأعترف كيف قتلت الضابط، وكم ضابطاً قتلت، سأقول لكم كل ماتريدون معرفته، فقط أريد أن آكل ولا أريد أن أدخل تلك الغرفة المظلمة.

قد يعجبك ايضا