إعدام طفولة.

417

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كنت أقوم بتنظيف جرح أحد المصابين وتجبير يده التي كُسرت بفعل سقوطه على الحجارة بعد أن وقعت قذيفة على المكان الذي كان فيه مع باقي الأحرار يتصدى لهجوم غاشم على أحياء المدينة، في حرشٍ كثيف الأشجار اختبأتُ خلف جذع شجرة توت كبيرة، في الظلمة وعلى ضوء الولاعة أحاول إيقاف نزيف جرحه العميق، وأصوات القصف المستمر منذ ساعتين يدق أجراس الخطر حولنا.
أوراق شجرة التوت كانت تتساقط فوقنا كثلوج كانون في عام خير حين بدأ الرصاص يقترب منا وكأنهم يلاحقون أحداً، فجأةً حلّقت حولنا أفواه البنادق وكشفتنا أضواؤهم، شعرت لثوانٍ أن قلبي توقف عن النبض حين سمعت أحدهم يقول:

لقد وجدنا إرهابيين هنا، ومشفى ميدانيّ.
لم أكن أعلم أن بعض لفافات الشاش ومقصاً ومطهّر جروح وبعض الأدوية المسكّنة يشكّلون مشفىً ميدانياً، لكني علمت بكلماته هذه أن تهمة محكمة الحيثيات حيكَت بثوان وسنكون مع من لا يخاف الله.
أخذوا المصاب لمشفى عسكري، وأخذوني لفرع التحقيق العسكري كما جرت العادة في نظامهم، في أول دخول المعتقلات للفرع يجب أن يحضرن حفل تعارف في مكتب النقيب، ولأنني غنيمة ثمينة لديهم كنت سيدة الحفل بين ست معتقلات وقفت أنتظر، قال النقيب بعد أن أغلق هاتفه وأنهى حديثه ب (ولا يهمك واعيني، وصلت الهدية):
أنزل هؤلاء واترك لي هذه العروس، وابتسم لي كثعلب ماكر. بقيت لوحدي معه وأفكار مخيفة تعصف برأسي برغم ما أتصنّعه من قوة وثبات، جلس ووضع قدماً على قدم وراح يلوّح بحذائه العسكري وكأنه مفتخراً بشيء عظيم: منذ متى وأنت تعملين بمعالجة المخربين؟، ومع أي فصيل تتعاملين؟، ومن يدعمكم بالسلاح والمعدات؟، استجمعت قواي وأجبته بثقة:
لا أعمل مع أحد، ولا علم لي بأي شيء مما تقوله، نهض غاضباً: يبدو أنك لن تتعاوني معنا، وستبقين لدينا طويلاً.
حسناً، فليكن. يا ناصر… أنزل هذه المجرمة للمنفردة رقم ثمانية، وسأنظر في أمرها لاحقاً.
في بئر من جَور واضطهاد، أمضيت سبعةً وأربعين يوماً، لم تبقَ وسيلة تعذيب إلا واستخدموها معي، بقيت في المنفردة وظلمتها بين أوساخ تكدّست وحشراتٍ استوطنتها طويلاً والجوع الذي ينهش أحشائي، فطعامهم لا يسمن ولا يغني من جوع، في لُجّة ما أنا فيه أصبت بأمراض جلدية، انتشرت حبوب لها رؤوس صفراء، وحكة لم تتركني ليلاً ولا نهاراً، وانتفخت أصابع أقدامي وكأنها بالوناتٌ حمراء صغيرة، انتبَهوا لما أصابني، فخافوا على أنفسهم أن يُصابوا بالعدوى، لذلك توقفوا عن “شبحي” وتعذيبي أو الاقتراب مني، فكانوا يدفعون لي بالطعام من فراغ تحت الباب وينصرفون مسرعين، وهذا ما أنقذني من توعدات النقيب لي.
في إحدى الليالي المشؤومة دخل السجّان المنفردة وقد ارتدى لباساً واقياً ليتجنّب العدوى من الحبوب والتقرحات التي استفحلت وأخذت تنفجر بما فيها من سقم وروائح كريهة، وقف بقرب الباب وقال:
هيا تعالي معي، وقادني لزنزانة كبيرة تصدرت إحدى الممرات الطويلة، فتح الباب ودفع بي إلى الداخل، وقال: ستبقين هنا إلى أن يُنظر بأمرك، وانصرف مسرعاً.
عيون الأطفال البريئة التي مُلِئَت حزناً وخوفاً أوجعتني، تسعةُ أطفال مثل الورود، أعمارهم بين الثانية والرابعة عشر، يالهول ما وقعت عليه عيناي!، حتى الأطفال لم ينجوا من حكم القهر والوحشية!، لم أقترب منهم خوفاً عليهم من العدوى، فقد أدركت أنهم جاؤوا بي إلى هؤلاء الأبرياء الصغار كي أنقل لهم تلك الأمراض التي بدأت تفتك بي.
بعد دقائق من صمتٍ ونظراتٍ تبادلناها دون كلام، انفجرت تلك العيون الذابلة ببكاء مرير وكأنهم أطفال وجدوا أمهم بعد ضياع طويل، ركضوا نحوي ولفّتني تلك الأذرع الطرية، وكلماتهم تتزاحم تريد أن تشكوا لي فظاعة ما نالت هذه العصافير الصغيرة في قفص الشر هذا:
لقد ضربونا، عذبونا. أنا ربطوني من شعري
وأنا علقوني من يدي و…
و… وتوقفت هنا الألسن متردّدةً بنطق ماكان من فعلٍ تأنف الحيوانات فعله، وتلعثم الثغر الصغير، أيقول ماحدث؟، أم يبلع الوجع المخجل؟!، صاح طفلٌ بصوتِ جميع من في الزنانة: لقد اغتصبونا يا خالة، لقد اعتدوا علينا.
نسيت ما أنا فيه وتكدست الأحقاد وتعاظم كل جرح في الروح من هول ما رأيت، جثوت على ركبتي وأحطتهم بذراعيّ، وغرقنا في بحر من عبرات.
بعد أسبوع تم الإفراج عني باتفاقية التسوية التي كانت لبعض أهالي المعتقلين، بعد أن وقَّعنا على وثائق تنصّ بعدم المشاركة بأي عمل ثوري،
أما عني فلن تقيدني وثائق وأصفاد العالم بأسره، ولن تمنعني من متابعة مسيري في طريق الحق، فلن أنسى ماحييت تلك البراعم المتفتحة على جَورٍ وطغيانٍ أسودَين، لن أنسى بريق عيونهم التي أطفؤوا فيها شغف الحياة.

قد يعجبك ايضا