صمود الحرائر.

516

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق


لم يسمح برد كانون الثاني لأم ندى بالنوم رغم تعبها تلك الليلة، ولم يتبقَّ لديها ماتشعله في مدفأتها القديمة، التصقت بندى بعد أن تدثرتا بكل مافي البيت من أغطية، سرحت عيناها بسقف الغرفة ثم نظرت لصورة أبو ندى المعلقة بصدر البيت.
أبو ندى الذي استشهد على الجبهات، فداءً لقضيته التي أخذها على عاتقه منذ اندلاع الثورة السورية.
قالت بصوتها المرتجف برداً وحزناً:
-رحمك الله، وجعلك في عليين، لقد تعبنا بعدك يا أبا ندى، قطع كلامها طرق الباب القوي، فهبت مسرعة ووقفت خلف الباب وسألت:
-من؟نحن رجال الأمن، افتحي الباب وإلا كسرناه.
نظرت لندى التي وقفت خلفها فزعة وقد أمسكت بها بخوف، وفتحت الباب:
-من أنتم؟، وماذا تريدون؟!
دخلوا كريح عاصف، عشر رجالٍ فتشوا الغرفة، عبثوا بمحتوياتها ثم أمسك أحدهم بيدها، وقال:
-هيا معنا، في الفرع ستعرفين من نحن.
حاولت أن تقاوم وهي تقول:
-لم أفعل شيئاً، وابنتي… أين سأذهب وأتركها!، ليس لنا أحد.
قال كبيرهم:
-لا تخافي، ابنتك ستأتي معنا، كي لا ينشغل بالك عليها، وضحك بسخرية.
لأول مرة تشعر أم ندى بكل هذا الخوف، ربما ليس على نفسها، بل على ندى ابنة السابعة عشرة عاماً.
حين كانت تخرج مع المقاتلين الأحرار إلى الجبهات لتكون قريبة من أرض المعركة وتقوم بإسعاف المصابين من الثوار، فهي تعرف الكثير في هذا المجال، فقد كانت تعمل ممرضة قبل زواجها، كانت تودِعها عند عند الجارة العجوز التي توفيت منذ شهر.
في غرفة التحقيق، وقفت أمام المقدم وندى تبكي مرتعبةً مما يحدث.
نظر المقدم لندى الفتية، والتي فاح منها أثير الأنوثة المبكرة، بعينيه الذئبيتين وقال:
-هذا الملاك ابنتك؟، ألا تخشين عليها حين تتركينها أياماً وليالٍ وأنت مع المخربين؟!، تداوين الإرهابيين وتتركينها لتتلاعب بها أيادي العابثين؟!.
_(لعنة الله عليكن، قال أم قال).
قالت الأم بصوت خائف على غير عادته:
-لم أداوِ أحداً، ولم أترك ابنتي، هي روحي ووحيدتي التي أعيش لأجلها.
قهقه بصوت غليظ وقال:
-أعرف أنك شرسة وعدوانية، لكن ليس أمام المقدم أبو حيدرة، ثم صرخ:
-اسمعي… أنا أعرف عنك كل شيء، تحركاتك تصلني أولاً بأول، ولكنني كنت منشغلاً عنك بمخربي المنطقة الشمالية، والآن تفرغت لك ولهذا العصفور الجميل، ورمق ندى بنظرة شريرة.
صمت برهةً، وصاح:
-يا ملازم علي…
دخل مسرعاً وضرب التحية:
-احترامي سيدي.
-قيِّد هذه المرأة على هذا الكرسي، وسنرى إذا كانت تساعد المخربين أم لا، وأشار لكرسي في زاوية الغرفة.
بعنوةٍ وشراسةٍ قُيِّدت أم ندى التي حبست دموع الضعف أمام ابنتها كي لا تزيد من خوفها، خرج الملازم علي وبقي أبو حيدرة يتأمل جسد ندى بدقةٍ وتأنٍ شديدين، والأم تتضرع لله بأن يحفظ لها زهرة عمرها من شر ذلك المستذئب.
بلحظة صمتٍ وهدوء، انكسرت أبراج الأمل بالنجاة من هلاكٍ محقق، انقضّ المقدم أبو حيدرة على ندى، جردها من ثيابها وراح يعبث بما دافعت عنه وحافظت عليه الأم بروحها، ولم تجدِ صرخات ندى المستجدية وتوسلاتها نفعاً مع ذاك الوحش الآدمي.
أمّا الأم، فقد أدمت معصميها الحبال التي أوثقتها محاولةً الخلاص وإنقاذ ابنتها.
بعد ساعة من التعذيب والتفنن بشططٍ وبغيٍ وحشيٍّ صاح:

ياملازم علي، خذ هاتين الخائنتين وارمهما في المنفردة.
حمل الملازم ندى المغمى عليها، وتبعته الأم بخطى باردة، وكأن الموت قد سلبها أنفاسها، وحين وصلت للكرسي الذي جلس عليه أبو حيدرة بعد أن ترنّح لفرط شربه الخمر ومقاومة ندى له، تصنّعت السقوط بالقرب من الطاولة التي وضع عليها قنينة الخمر، وبلمح البصر أمسكت القنينة، وبضربة قوية كسرتها بالحائط وجرحت وجهه بها لتفقأ عينه، وتشق شفتيه، وهي تقول بعد أن فجرت بركان القهر والدموع المنحبس غصباً:
-سأموت مع ابنتي، لكن ليس قبل أن أقهر من قهرني بزوجي وابنتي.
صنعت بيدها المغلولة له جرحاً شوّه وجهه وأخلد فيه ندبة تذكّره أبداً بأنّ الحرائر لا يسكتن على ضيم حتى لو كنَّ في القفص.

قد يعجبك ايضا