ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
أغلقوا علي باب “المنفردة” الباردة والمظلمة بعد أن أُنهك جسدي النحيل بصعقات الكهرباء المتتالية، كنت في كل مرة أصعق فيها أشعر بأطرافي تتخدر تدريجياً، حتى أصل لمرحلة لا أشعر بها بيداي وقدماي، وحين كان الألم يفوق حد الاحتمال أغيب عن الوعي لأصحو بعد ثوان بفعل الماء البارد الذي يصبونه علي ليكرروا صعقي وتعذيبي، وأنا في هذه الحالة لا أسمع منهم سوى:
“ألن تعترفي بمكان أخيك وباقي المخربين؟، ألن تقولي أين مخزن الأسلحة التي تخربون بها البلد؟!”، وأنا أردد بصوتي المتعرج المنبعث من قاع الأوجاع:
-لا أعرف أحداً منهم، وأخي لم أره منذ شهرين ولا أعلم مكانه.
وكلما أصرّيت على إجابتي هذه كلما كان التعذيب أفظع.
في تلك المنفردة الضيقة، أمضيت أسوا الأيام، بكيت أختي وأمي العجوز، وأخي الذي اعتقلت لأكون وسيلة ضغط عليه، حتى يسلم نفسه لهم، ويخبرهم عن تحركات الأبطال الذين قضّوا مضجع الظلّام، وكبدوهم الخسائر الكبيرة في كل عملية كانوا يقومون بها، لم أخف على أمي وأختي اللتين تختبئان في قرية عمتي البعيدة بقدر خوفي على أخي زياد، فهو بطلٌ ضرغام لا يخشى بطشهم وغدرهم، فقد أحرز وباقي عناصر الفصيل أروع الانتصارات، ولهذا بات هدفاً عند الفروع الأمنية كلها في المنطقة، ورصدت مكافأة مالية كبيرة لمن يجيء برأسه.
كانت ليلة باردة طويلة مخيفة حين أخذوني من زنزانتي، كنت أمشي بخطا ثقيلة متوجعة، حافية القدمين عارية الرأس، منكوشة الشعر لهول ما تعرضت له من تعذيب، ممر طويل مظلم توزعت على جانبيه الزنزانات التي انبعثت منها روائح الدم وبقايا مخلفات المعتقلات، وتعالت من جنباته أصوات الأنين، وصراخ المتألمين والمستغيثين، لا عجب! فهذا فرع الأمن العسكري في مدينة حمص، والذي اشتهر بالاعتقال التعسفي، في طابقه الأرضي ومنفرداته التي تقبر فيها الأجساد وتعدم فيها الأرواح أدخلوني مكتب النقيب مصعب، الذي ذاع صيت نذالته في المنطقة، وقفت أمامه بحالة يرثى لها وكأنني شبح خرج من مقبرة، ابتسم ابتسامة ساخرة وقال بهدوء مقيت:
-غداً ستخرجين من هنا، لقد تم الاتفاق على تبادلك بين قائمة الأسرى، فأخوك الخائن طالب بك مقابل أحد ضباطنا الأشاوس.
قفز قلبي فرحاً وكدت أصرخ “الحمدلله”، لكنني آثرت عدم إظهار فرحتي، وذلك لتجنب إثارة غضب هذا المجرم، اقترب مني وراح يدور حولي ويتفحصني بتأنٍ مما أرعبني منه، قال وهو يدور:
-لكن ياعزيزتي لن تخرجي من ضيافتنا بدون أن تأخذي معك تذكار،
كي لا تنسي كرمنا وحسن ضيافتنا مدى الحياة.
وبشراسة الوحش هجم علي، وجردني مما يستر جسدي الخائر القوى، كانت قوة الكون كلها معه، مما أظفره من مبتغاه، فدنس الشرف وداس الأنوثة بجبروت القهر، وهذا ماجعل مني بعد خروجي من معتقلات الضيم والإجبار، أرافق أخي بما يصلح في معارك الثوار، وأقدم ما استطعت لدعم ثورة الحق التي نذرت نفسي لها، إما النصر أو أموت دون النصر.