طفولة في قيد…

582

بين جدران المعتقلات يحدث كل ما هو خارج عن المألوف، لكن ما لا يحتمله عقل إنسان هو أن يجهل طفل صغير ما الشجرة والعصفور والسماء!
حقد الظالمين لم تسلم منه براءة الطفولة.

ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق

كان مازن يلعب ويمرح في الماء الذي وضعته أمه فيه لتحممه، ويملأ بكفيه الصغيرتين بضع قطرات منه ويرشقها على وجه أمه ويضحك منتشياً متلذذاً باستثارة غضبها.
كنا نحن الثلاثون معتقلة نراقب بصمت هذا المشهد الجميل والحزين في آن معاً، مازن ابن الخمس سنوات وُلِد في معتقلٍ أحكم قبضته على أمه وهي حامل به في شهرها الثالث،
ولأنها وكباقي المعتقلات مرت على نصال التعذيب الحادة فقد ولدته في الشهر السابع.
مازن ابن عتمة الزنزانة وابن كل معتقلة كانت تُجبر على هذا المكان المقيت، فهو ابن من تركت أطفالها تبكي خلفها، وابن من مات جنينها قبل أن يصرخ صرخة الحياة الأولى بفعل التعذيب وابن الجدات اللواتي أشعل الشوق والحنين في قلوبهن نار أتون حارقة.
قطرات الماء التي وصلت لوجوه الشاردات بوجع الحال وبراءة مازن أيقظتهن بخفة وحنية، قالت الأم للجدة أم وسيم طالبةً العون لإنهاء استحمامه:
تعالي ياجدة وقومي بتحميمه، فقد أتعبني بضوضائه ولهوه. ضحكت الجدة وقالت: آه منك، أيمنعك لعبه ومرحه!، ابتعدي.. سأقوم بتحميمه وأنا أحكي له حكاية، سيهدأ ويستكين بسماعها ريثما أنهي حمّامه العصيّ هذا، وضحكت.
اقتربت منه الجدة وشمرت عن ساعديها وأمسكت به بلطف، بينما حدقت جميع العيون بها تراقب كيف ستهدِّئ الجدة بخبرتها شقاوة وحيوية مازن.
قالت الجدة بعد أن سكبت القليل من الماء عليه:
عادت العصفورة مسرعة تحمل الطعام لفراخها الصغار، وحلقت بجناحيها الملونة بأزهى الألوان، ريشة صفراء كالشمس، وريشة خضراء كالعشب، وريشة زرقاء كلون السماء، دُهِش الجميع لاستكانة وهدوء مازن غير المتوقع! فهو معروف بنشاطه وفرط حركاته، أنهت الجدة حمّامه وراحت تلبسه ثيابه، ومازال مازن غارقاً بصمت غريب، قالت الأم مستعجبة: مابك ياحبيبي؟! هل يؤلمك شيء؟
قال ببراءة الطفولة جمعاء:
_أمي… ماذا يعني عصفورة؟،والشمس والأزرق والأصفر، والأخضر!، ماهي السماء؟!.
تبادلت المعتقلات نظرات الوجد والأسى وعجزت كل لغات العالم عن الإجابة عن أسئلته، إذ كيف سيشرحن له أن خلف هذه القضبان ثمة شمس وسماء وطيور وأعشاب وحياة كاملة لم تسمح له وحشية البشر من استنشاق هوائها، كيف سيخبرنه أنه نفي عن الحياة قبل أن يطلق صرختها الأولى؟!
أسئلة مازن تختصر جريمة شنعاء خارجة عن المنطق والمألوف، تحدث كل يوم أمام مرأى ومسمع العالم كله، ولا ناصر لهذه الطفولة المقتولة غير الله.

قد يعجبك ايضا