سارق الطفولة
ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
وقف أمام الدكان الذي كانت تؤمّه جميع نساء مخيم الأرامل، وقد غطت وجهه الأسمر غبرة “معمل البلوك”، فقد كان يعمل بنقل “الخفان” للزبائن الذين يشترونه من المعمل.
جابر ابن الاثنتي عشرة ربيعاً، أصغر عامل في المعمل، تم تشغيله من قبل أحد المعارف، شفقة على وضع أهله المزري، فبعد اعتقال والده من قبل النظام، لم يبقَ أحدٌ معيلاً لأمه وأبنائها الخمسة.
فترك جابر المدرسة التي يحبها، وراح يعمل مياومة (يومية)، كي يستطيع تأمين قوت يوم إخوته الصغار التوأم سعاد وسارة، ابنتا الثلاث سنوات، وأحمد وعلي في الثاني الابتدائي.
في زحمة المتاعب والأعباء الملقاة على كاهل جابر، مات في روحه شغف اللهو بين أزقة الطفولة المسلوبة منه.
كان جابر يمر على دكان المخيم الوحيد، ليشتري بعض الخضراوات والخبز لأهله، فيستقبله إخوته فرحين بما يحمل لهم “الأب الصغير” من أطعمةٍ وبعض ما يشتهونه من “سكاكر”.
أجرة جهود جابر مع السلة الغذائية المخصصة لهم، بالكاد تسد الرمق، وتغطي القليل من احتياجات الأطفال، من أدوية وملابس ومستلزمات أخرى.
بعد أن يغط الأطفال الصغار في النوم كل ليلة، كانت الأم تجلس مع جابر يتبادلان الأحاديث والأماني بعودة الأب المعتقل، ونهاية معاناة جابر، وغربة العائلة ووحدتها في زحام المخيمات اللامتناهية.
وكان يحدثها عن أصدقائه الذين تركوا المدرسة من أجل العمل ومساعدة ذويهم على قساوة حياة المخيم، ويحدثها عن عمر الذي يجول بين المخيمات وهو يحمل سلة علقها برقبته، بعد أن ملأها بأنواع “البهارات”، وسعد ابن الجيران الذي يبيع “الذرة المسلوقة” التي كانت تجهزها أمه، أكبر أرملة في المخيم، على نار موقد الحطب.
وأدهم الذي يقضي يومه وهو يبيع “البوظة” للأطفال في الشوارع.
التقرحات والشقوق المحفورة في يديه الصغيرتين، كانت تخبر عما يبذله من جهد يفوق طاقة طفولته المغتصبة.
دموع الأم المنسكبة قهراً وعجزاً أمام حال فرض عليها كما الكثير من النساء اللواتي قهرن بفقدان أزواجهن وتهجيرهن، كانت تحاول إخفاءه عن الصغار لتبدو قوية متماسكة أمام هذه الأهوال.
كان الصراخ العالي والبكاء كصافرات الإنذار يصدح بأجواء مخيم الأرامل، فيوقظ العيون النائمة على وجع عشعش فيها، ظلم وحزن عميقان في ظل أحداث زرعت في قلب كل سوري “آه”.
حمل أحد عمال معمل البلوك جابر وقد غطى نصف جسده السفلي الشاش، وجبرت يده وعلقت برقبته، أما الخدوش والجروح فقد شوهت وجهه المتعب، قال العامل مطمئناً الأم:
– لا تخافي يا خالة، جابر بخير، لقد وقع بعض “الخفان” عليه، وأسعفناه للمستشفى وقام الأطباء بتضميد جراحه وتجبير كسر يده.
تمدد جابر على الفراش، وآهاته محتسبة بعينيه البنيتين، نظر لأمه والحسرة تنطق دونما كلام، وكأنه يقول لها:
– آسف يا أمي لأني خذلتك وخذلت إخوتي، آسف لأني سأضطر للتوقف عن العمل، مجبراً حتى تشفى جراحي، ويجبر كسر يدي.
تحلّق الإخوة حول أخيهم الملتف بشاش الضعف والوجع، والصمت يتحدث عن خوفهم وحزنهم عليه، أما الأم فقد أطلقت العنان لنظراتها نحو السماء، وغابت في غياهب مناجاة رب كريم تسأله معجزة تعيد الأب من معتقله، وتنجي جابر من عطب قد يرافقه مدى الحياة!