إعاقتي لا تلغي إنسانيتي
ريمة خطاب |شبكة مراسلي ريف دمشق
حبال المطر المتواصلة، والصوت المنتظم الذي كان يصدر عن سقوطها القوي على الأرض، كعرس نصبت أوتاده بين السماء والأرض!
في يوم من أيام كانون الثاني، حيث حشرت مخازن الخير، ودعي جنون البرد القارص، ليحل ضيفاً (ثقيلاً) مألوفاً لدى الجميع.
كنت قاصداً الصيدلية القريبة من حينا، لصرف الدواء لابنتي المريضة، فأوقفتني رؤيتها تسير حافية القدمين، بمساعدة عكازيها.
فتاة في عمر الورود، تسير تحت مطر غزير، وبقديمين حافيتين!
تسمّرت مكاني أراقب ذات الشعر الكستنائي المثقل بقطرات المطر، الملتصق بثيابها الرثة.
التعب والإرهاق الواضحين عليها، لم يخفيا جمالها والبراءة المتوقدة في ذلك الوجه الآخذ لونه من سمرة القمح الريفي، المشبع بأشعة الشمس الملتهبة على بيادر نيسان.
لم تثنها عن مسيرها الحثيث، المستنقعات الصغيرة التي تجمّعت فيها مياه المطر، ولا الوحل اللزج الذي كان يحاول إسقاطها في لجته.
وَقَفَت أمام باب المقبرة القديمة، التي تتوسط القرية، فتحت الباب ثم دخلت واقتربت من قبرين قريبين من بعضهما، يبدو من الزرع والريحان عليهما، أنهما جديدان، اقتربْتُ أكثر محاولاً تتمة متابعة هذا المشهد الذي أثار فضولي الشديد.
حدَّقَت بالقبرين بعينيها الواسعتين، وكأنها تتحدث مع من رقد فيهما! جلجل صوتها الذي شق طريقه بين صخب الصمت وعرس المطر، وكبركان أخمدت نيرانه سنون طويلة، انفجرت لتعلن انتفاضة قهر وكبت وصرخت:
- ها أنا أسير تحت المطر، والطين يملأ الشوارع، والبرد كالسيوف يخترق جسدي الذي خبأتموه طويلاً، لم أمت… نعم لم أمت، هل ترياني؟!
انظرا لتلك (المعاقة)، التي خبأتماها سنين طويلة عن الحياة، صيفها وشتاءها، لم يقتلها زمهرير كانون، ولم تؤذها أمطاره الغزيرة، ولم تأكل قدميها أكوام الوحل المتراكمة!
عيون الناس التي كنت أتخيلها وحش يتربص بي ليفترسني، لم تفعل،
لقد أرسَلَتْ لي نظرات حنان وطيبة وصلت لقلبي المتصحّر عطشاً من حرمانها.
نعم يا أبي… لم يؤذني أحد، لقد مشيت منذ الصباح في هذا الجو الماطر، رأيت الناس، يذهبون ويجيئون.
المحلات، البيوت، أعمدة الكهرباء، الأشجار والطيور، والسماء الواسعة، الحياة كما هي بدون تجميل أو تشويه!
لم أعلم يا أمي أن خوفكما عليَّ ومنعي من الخروج للحياة والانخراط بين البشر كان خجلاً من وضعي ومما حملني به الله من مرض!
أتستحيان بي؟!
وأطلقت صرخة مدوية خرقتها عبرة أخرجت كل ما في القلب من وجع الروح: - أنا إنسان، جسد وروح…
لمَ قتلتم عمري؟!
لمَ دفنتموني في الحياة؟!
عمري الذي ضاع وتلاشى بين جدران سجنكم يبكي أيامه المريرة، التي قضيتها بين الأمل والألم، خمسة وعشرون عاماً وأنا أراقب الحياة عن بعد!
أتحسر جمالها، أشتهي ولوجها، أحلم بمعجزة تنقلني من جحيم منفاي إلى الحياة الطبيعية، اليوم وأنا في طريقي إلى المقبرة اكتشفت أن الحياة لوحة جميلة أبدعتها يد الخالق، لوحة حكمتما عليّ بالنفي خارجها بدون جرم اقترفته، ما ذنبي إذا اختصّني ربي بما أنا عليه!
وكهدوء جاء بعد عاصفة هوجاء صمتت، هدأ ثوران بركان الغضب واللوم، وقالت بصوت كسره ظلم عظيم، وتابعت: - أتعلمان لماذا جئت اليوم، وفي هذا الجو إليكما؟!
إنه الحلم…
نعم لقد زرتماني البارحة في منامي، كنتما تبكيان، ودموعكما جمر ينزل على وجهيكما، فيحرق الجمر ما تحته من جلد، لم تنطقا بكلمة واحدة، لكن تلك الدموع نطقت بالكثير، أريد أن أختم زيارتي لكما بجملة كنت أرددها كثيرا بيني وبين نفسي، وأخاف أن أحكيها أمام أحد، كنت أسجنها بين صرخاتي المكبوتة، وأعزّي بها نفسي، وأقول لها: - سيأتي يوم ونخرج معاً للحياة، والآن حان وقت خروجنا للحياة:
إعاقتي لا تلغي إنسانيتي.
هزني هذا المشهد الذي جرّد ساكنا هذين القبرين من إنسانيتهما!
أمعقول أن يوجد هكذا ظلم في الدنيا؟!
لم أصدق ما رأيت وسمعت، أبُ وأم يخجلانِ بهبة الله، فيقومان بدفنها وهي على قيد الحياة!
أكملت طريقي للصيدلية من أجل دواء ابنتي، واستمرت الفتاة بشق طريقها بصعوبة بالغة تحت حبال الخير، قاصدة حياةً بلون وشكل مختلفين، حياة تزخر بالحياة، فهي ولادة جديدة بعد مخاض دام سنين!