راقصة الباليه
ريمة خطاب |شبكة مراسلي ريف دمشق
انتهت الساعات اليومية التي اعتادت عنود أن تقضيها في مشاهدة البرامج التلفزيونية، كل يوم دون كلل أو ملل، راقصات الباليه، الفتيات الجميلات، ممشوقات القامة، ذوات الخصور المضمرة، وصاحبات الحركات الخفيفة الرشيقة.
كانت مفتونة برقصهن، ودورانهن، وتحليقهن كفراشات ربيع خرجن للتو من شرنقاتها، وحلّقت في السماء، وغفت بعد أن تعدت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل.
كانت أمها تحترق لرؤيتها على هذا الحال كل يوم، فهي تدرك حجم ألم ابنتها عنود لأنها لا تملك القدرة على المشي بسبب شلل الأطفال الذي يرافقها منذ عامها الأول.
عنود ابنة التاسعة عشر، ذات الشعر الكستنائي الكثيف، والعينيين العسليتين، والرموش المقلوبة (كسيوف عربية)، كما كانت أمها تقول لها، مادحة جمالهما، أما قوامها الطويل الذي لا يستقيم إلا بمساعدة عكازين، فكانت تغصّ بكلمات مدحه، فتصمت، وتكتم حسرتها على ابنتها.
تمر الساعات الطويلة وعنود جالسة تراقب الراقصات، كيف يقفن على أصابعهن بخفة، ويرقصن على أنغام موسيقا هادئة، حالمة، تأخذ عنود لعوالم من خيال مكبوت.
ذات مساء بعد أن تناولت عنود طعام العشاء مع والديها، استأذنتهما، وحملت عكازيها واتجهت نحو غرفة نومها، استغربا فعلها هذا، فهي معتادة على السهر الطويل كل ليلة، ولا تنام قبل أن تشاهد البرامج اليومية لرقص الباليه، أوقفت عنود تساؤلات الأم:
– ما بك يا بنتي؟! هل أنت مريضة؟، لماذا تذهبين للنوم باكراً هذه الليلة؟!
استدارت عنود وأجابتها:
– لا يا أمي لست مريضة، لكن ليست لدي رغبة في السهر هذه الليلة، قال الأب وقد بلع لقمة كان يمضغها بصعوبة:
– ما بك يا حبيبتي؟!، ليس من عادتك النوم باكراً!
تصمت عنود لبرهة ثم تقول، وقد ارتجف صوتها الحزين:
– لا تخافا، لا أعاني من أي خطب، فقط أريد النوم.
الأم: لا تشغلي بالنا يا بنتي، ألا تريدين مشاهدة التلفاز؟!
تقطر دمعتان من عينيها، وقد فشلت بإخفائهما، وتقول:
أمي لقد سئمت التلفاز، وكل برامجه، أريد أن أغيّر بعض تفاصيل يومي، حتى لو بالنوم.
تقترب من والديها، وتطبع قبلة على جبين كل منهما، وتصطنع ابتسامة صغيرة، كيلا تترك في قلبيهما حزناً عليها.
فهي تعلم كم يحبانها، وكم يخافان عليها من أي أذى قد يصيبها، طبعاً فهي ابنتهما الوحيدة، وفرحتهما التي عبثت بحياتها يد السقم.
ساد القلق ليلة عنود، وراحت تتقلب على فراشها، كمن يتقلب على جمر!
تعاركت عيناها المرهقتان مع أشباح النوم، علّها تستطيع أن تهرب من وجع التفكير، ومتاهات الشرود، ورتابة الأحداث اليومية القاتلة.
تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ومازالت عيناها تتنقلان بين ساعة الحائط ذات اللون الرمادي، وبين اللوحة الوحيدة التي زينت بها غرفتها، والتي ضمّت ثلاث راقصات باليه يؤدين رقصة في قاعة ملئت بأنواع الورود المختلفة، وقد لبسن ثياب الرقص الخاصة، التي ثبت على ظهورهن أجنحة، وعكازاها رفيقا دربها، اللذان ألفتهما برغم تطلعها ليوم يأتي، تستغني فيه عنهما!
الطريق الطويل الذي لا تبدو له نهاية، والذي تسيجه الأشجار، والأزهار، والأعشاب الخضراء، وتعلوه السماء الصافية، وتغريد العصافير يشق صمته بعذوبة لا متناهية، دفع عنود لرمي العكازات والمشي دونهما، حين استطاعت أن تمشي بدونهما، أيقنت أنها في منام، قطفت بعضاً من الزهور الملونة، وضمتها، صنعت زناراً منها، وضعته على خصرها النحيل، فتحت ذراعيها، كطير يتعلم الطيران لأول مرة، رفعت بجسدها للأعلى، وقفت على رؤوس أصابعها، وبدأت تتحرك برشاقة وخفة رائعتين، كانت تدفع الأرض بقدميها، فترتفع وتحرك ذراعيها فتبتعد عن الأرض بضع أمتار، رقصت… ورقصت…ورقصت، وشاركتها برقصاتها السحرية،
الطيور، والفراشات، وأغصان الأشجار، وأوراق الأزهار، حجرة صغيرة اختبأت تحت الأعشاب، لم تنتبه لها فتعثرت ووقعت على الأرض، لتفتح عينيها، وتجد نفسها على السرير.
سقف الغرفة، الساعة الرمادية، ولوحة الراقصات، وعكازاها، الواقع المرير، والحياة الرتيبة.
جلست، وتأملتها، كل شيء يذكرها بأنها لن تستطيع أن تغير شيئا في حياتها إلا في أحلامها، فحملت عكازيها وقصدت غرفة التلفاز، دخلت الغرفة، حملت جهاز التحكم، (الريمونت)، أشغلت التلفزيون، ووضعته على برنامج تعليم رقص الباليه، وراحت تحلق مع الراقصات ودموعها تنساب مع بسمتها الحزينة.