مستمرون في الخوض بأغوار حياة غزالة وصديقتها بشرى نكتشف عجائبا لا تخطر لنا على بال من فعل بشر تجردوا من إنسانيتهم……..
ريمة الخطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
استغربت بشرى لهذا، حملت العلبة وفتحتها، وإذا بها الكثير من الحقن (السيرنغات)، زادت دهشة بشرى، وبدا ذلك عليها فتسأل بتعجب:
ما هذا؟! تأخذ غزالة الصندوق، وتخرج منه بعضاً من الحقن، تنظر إليها، وكأنها تقرأ كتاباً من شطط، خُطَّت سطوره من ضيم واضطهاد: كنت قد اشتريت هذه، وخبأتها كي تكون حجة لي للذهاب لبيت جيراننا.
ماذا؟! نعم لا تستغربي يا بشرى، فظلم أمي لي لن يخطر على بال بشر.
هبّت غزالة مسرعة، ووقفت تتسول من جو الغرفة نفساً يسعفها، فقد اختنقت بهذه الذكرى الأليمة.
أسندت ظهرها لخزانتها، وغطت وجهها بيديها، رحلت بعيداً عن الغرفة، وعن بشرى، وعن كل شيء، عادت إلى ذلك الزمان الذي اضطرت فيه للكذب، والاحتيال على أمها كي تسمح لها بالذهاب لبيت جيرانهم، الذي يبعد عنهم عرض الشارع فقط، فكانت تدّعي أنها مريضة، وأنها بحاجة لأخذ حقنة، وابنة الجيران خبيرة بذلك، فقد تعلّمت ذلك على يدي الطبيبة، حين مرضت أمها لمدة طويلة.
كانت ذريعة لها حتى تستطيع الذهاب لزيارتهم نصف ساعة، فالمكوث في البيت أشهراً وحيدة، بات كحبال مشنقة يلتف حول عنقها، بعد أن تذوقت طعم الحياة المتسربة لأيامها من خلال فتح باب الزيارات، وتركه موارباً، فتخفي الحقنة تحت ثيابها، وذلك كي لا تكشف بنت الجيران، وأهلها حيلتها التي تخجل من فعلها، ومن السبب الذي دفعها لذلك.
حتى هذه الحيلة لم تنجِها من غضب ومقت أمها، فعندما كانت تتأخر قليلاً عن النصف ساعة، والتي كانت تبدأ بعد أن تنظر الأم لساعة الحائط، وتقول واعزة:
نصف ساعة لا أكثر، إياك أن تتأخري. كانت تعنفها بشدة، وتقسو عليها بأصعب الألفاظ، لتعكر على غزالة فرحة ذلك التنفس المسروق من بين شقوق الشطط والقمع. حين كانت ابنة الجيران تدعوها لزيارتهم، وقضاء وقت ممتع معها، لم تكن تعرف بما تجيب، فهي تعرف جيداً أن أمر خروجها من البيت أمراً مرفوضاً قطعاً، فكانت تدّعي انشغالها بأعمال البيت الكثيرة نهاراً، وبالضيوف الذين لا يتركونهم ليلاً، ومع ذلك كان لابد من زيارات خاطفة رداً لزيارة ابنة الجيران، التي كانت تستأنس غزالة بزياراتها، وهذا ما دفعها لاختلاق تلك الحيلة التي كانت كثقب إبرة، وخيط عريض!! صوت بشرى أفزع غزالة، وأيقظها من ذلك الشرود البعيد: هيه… غزالة، أين صرتِ؟!
تنظر إليها، وكأنها عائدة من سفر مرهق، تخطو نحوها بخطى بطيئة وتجلس بجانبها، تصب الشاي من جديد، تحمل الكأس، وتنظر إليها، وتقول:
كم تجرعنا من أسى، يا صديقتي!، كم نهبت منا أفراح الحياة، وقتلت ملذاتها في أزقة الظالمين!! بشرى: أنا أيضاً أقع تحت طائلة الانتقادات إذا ضحكت، أو وضعت أي نوع من مساحيق التجميل على وجهي.
غزالة:
أنا من وجهة نظر أمي، حرام أن ألبس، وأهتم بنفسي، حرام عليَّ أن أتعالج، وأن أخرج، وأرى الحياة، طوال عمرها وهي تلبسني ثوب الإعدام هذا، وتنفذ بي حكم الشنق قمعاً كل لحظة! أمي يا بشرى، لم تعاملني يوماً على أنني من بني آدم! … لم ترَني بشراً يوماً قط، ولم تراعي مشاعري في أي شيء، لا بالقول، ولا بالفعل، دائما كانت تستضيع أي شيء بي، مهما كان صغيراً، ولم تكن تفوّت فرصة إلا وتنتهزها لتقلل من شأني، وتستهزئ بأي شيء يخصني، وكانت تحاول جاهدةً على التفضيل علي، والتمنين بأصغر الأمور، التي هي من واجبات الأهل تجاه أبنائهم، حتى وصل بي الحال لأن أخاف أن آكل أمامها، وأقسم لك أنني بحياتي كلها لم أشبع من مائدة كانت تضمنا معاً! آه يا بشرى!! … طالما أحسست أن مصيبتي بأمي أكبر من مصيبتي بإعاقتي، لقد كانت دائماً تشعر بأنني لا قيمة لي، وأنني لا أزن ريشة عصفور صغير. ما جعلني بهذه الشخصية الضعيفة المعقدة، هو سوء معاملة أمي، وأهلي، والمحيط المتخلف الجاهل، الغارق في ظلمات القسوة، والاضطهاد، ولأن هذه الحاضنة الأولى في حياتي، لم تكن الحاضنة التي تحتوي وتستوعب، وترحم وتساند، لتقويني، وتدعم ضعفي، وجبني على وضعي الحساس، بل كانت سبب انهياري، وانعدام ثقتي بنفسي، وبقدراتي، بل وبإنسانيني، التي طالما طمستها قوانين التخلف والجهل. بشرى: لم أعد أريد شيئاً من هذه الحياة سوى أبو عزو، زواجي منه كفيل بأن ينسيني كل ما عانيت.
تقول غزالة في سرّها: