سنكون اليوم في جلسة موجعة مع ذكريات غزالة وصديقتها بشرى وسنعيش معهما أقسى ما تعرضتا له من غبن وضيم من ذويهما
ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
في صباح يومٍ مشرق علا فيه صوت زقزقة العصافير، وازدانت السماء بسحب بيضاء شفافة، بدأت غزالة بتجهيز نفسها للذهاب لزيارة بشرى، فقد اشتاقت لها جداً، وهي لم ترها منذ أن ارتدت عباءتها وشالها البني المحلى بزهور ناعمة باللون السكري، ومضت خلف زيد على الدراجة النارية، ولم تردّ على كلام أمها الجارح، الذي أسمعتها إياه كما تعودت، فقد اتخذت من أسلوب التجنب طريقاً تسلكه لتبتعد عن المشاكل والاصطدامات التي سئمتها. أمام خيام بشرى وقفت، وراحت تنظر هنا وهناك، وهي تقول في سرّها: ثم صاحت: _أرجو ألا تكون مايسة هنا! _بشرى… بشرى، يا أهل الخيام. خرجت بشرى مسرعة نحوها، وقد اعتلت وجهها تباشير فرح برؤية صديقتها الحبيبة، فتواصلهما عبر الجوال لم يكن بلذة لقائهما شخصياً: دخلتا الخيمة، بعد ترحيب كبير. _أهلاً وسهلاً، يا مرحباً بعزيزتي غزالة. قالت غزالة هامسة: ضحكت بشرى بصوت عال، وقالت: _أين مايسة؟ _لا تخافي، إنها في بيت أخي، أعلم أنك لا تحبين وجودها معنا. _أعلم، أعلم، وأنا كذلك، إنها في بيت أخي منذ البارحة، ذهبت لتساعدهم بجني محصول الباذنجان. _الحمد لله، أريد التحدث معك براحتي. _لا آخذ راحتي بوجودها، لا أستطيع التكلم معك بحرية، وهي معنا. _سنأخذ راحتنا، لكني سأحضر الشاي أولاً. تقول بشرى، وهي تهمّ بالخروج من الخيمة: أخرجت غزالة جوالها من حقيبتها، نظرت للرسائل، تفاجأت برسالة من الأستاذ جاسم، الذي لم تتكلم معه سوى مرة واحدة، حين سألته عن بعض التفاصيل التي ستكتبها على التصميم، حين أخذت رقمه من الطبيب، استغربت رسالته التي كان فحواها: _السلام عليكم، كيف الحال آنسة غزالة، هناك شخص يود أن تصممي له بطاقات لمطعمه، الذي سيفتتحه بعد أسبوعين. _آه… لو أستطيع أن أمتهن هذه المهنة!!، لكن كيف، وأنا لا أتقنها كما يجب، ولا أملك جهاز حاسوب، يساعدني في هذا العمل!! وفتحت سحّاباً في حقيبة يدها، أخرجت ما فيه من نقود، قلبتها بأصابعها، ثم قالت: _لو أملك منك الكثير كنت ارتحت من هم مصروفي، أدويتي، واحتياجاتي، وكنت اشتريت جهازاً!! أعادت النقود لمكانها، وعادت بذاكرتها إلى السنين الماضية، حيث كانت النقود شحيحة في يديها، ونادراً ما تحصل عليها، وذلك بالمناسبات الدينية، كصدقات الفطر، ونذور المضطرين، وعيديات من بعض الأقارب، وكل هذا لم يكن يغطي مصاريفها، التي كان للمرض والأدوية الأولوية دائماً فيها، فهي لم تكن لتطلب من أهلها، وهي التي تعلم كيف ينظرون إليها، وكيف يرون وجودها بينهم، ولأنها كانت تعاني من ندرة وجود المال معها، فقد كانت تحاول جاهدة أن تتعلم صنعة تمتهنها، كي لا تكون عبئاً على أحد، فقد عملت على صنع الأغطية الصوفية (اللحاف)، وصناعة مفارش الأطفال الجميلة، وصناعة (الصمديات) بالجبس، كالمزهريات، والمجسمات، وعملت في صنع الورود الاصطناعية اليدوية، كل هذا كان مجهداً لها بسبب وضعها الصحي، لكنه كان يريحها نفسياً، حين كانت ترى جمال ونجاح ما تصنعه بيديها، دون أن تتدرب عليه عند أحد، رغبتها بالاستقلالية والاعتماد على نفسها كان حافزاً قوياً يدفعها للعمل بأي شيء تستطيع عمله، وكسب المال منه، وأهم من ذلك كله أنها بعملها، ستثبت لمن حولها، بأنها قادرة على الإنتاج، وإثبات ذاتها، صحيح أنها لا تستطيع العمل في الحقول كباقي أخواتها، وفتيات القرية، لكنها قادرة أن تبدع في مجالات أخرى تصرخ بكينونتها من خلالها بوجه من يزعمون أنها عاجزة، لا حول لها ولا قوة. تنهدت لما شعرت به من ألم، ثم راحت تكتب رداً لرسالة الأستاذ جاسم: _وعليكم السلام، أهلا أستاذ جاسم، حسناً لا مانع، لكن أريد أن ترسل لي المعلومات المطلوبة كي أبدأ بالتصميم. اتكأت على الوسائد، وحدقت بسقف الخيمة البيضاء، وقالت في نفسها: _ربّاه… أشعر أني خارجة من العدم توّاً، كأنني أعيش في دنيانا لأول مرة، فكل شيء جديد، التفاصيل والأحداث، البشر، الأماكن!… كل شيء غريب عن غزالة، أو غزالة غريبة عنه. قالت في سرّها قبل أن تجيبه على رسالته: إحساس غزالة هذا، يذكرها بقصة أصحاب الكهف الذين ناموا سنيناً طويلة، وخرجوا ليجدوا أن كل شيء قد تغير، البشر، والحجر، وجدوا عالماً جديداً بكل ما فيه. كما أن غزالة التي أُقصيت عن الحياة منذ طفولتها، خرجت من كهف منفاها لتجد مسيرة الحياة آخذة بالسير نحو التقدم والتطور، والازدهار، الذي لم تكن ترى منه سوى عناوين على شاشة التلفزيون، خرجت من ذلك الكهف وظلمته، لحياة سيطرت فيها سطوة التكنولوجيا على جميع مفاصلها، وغزتها فكرة أن الكون قرية صغيرة ألغت حدودها وبُعد المسافات، سرعة التواصل عبر الانترنت، لقد وصلت أخيراً متأخرة لعالم وجدت نفسها فيه أمية جاهلة لا تفقه فيه إلا القليل، فهي خرجت من الكهف، ولا تزال في مخيلتها صديقاتها، وهنّ يلعبن في باحة المدرسة ويرتدين المريول البني، و”طاقية” الطلائع و “الفولار”، الذي طالما التف حول رقاب أطفال سورية. وما اختلف في تشابه الكهفين وأهليهما، أن أصحاب الكهف ماتوا بعد خروجهم من غياهبه، أما غزالة، فقد عادت إلى ولوج الحياة من جديد، بعد أن حطمت قيودها الواهمة أحداث ثورة سورية، والتي كانت أول انتصاراتها “ولادة غزالة من رحم العزلة والقمع”. دخلت بشرى تحمل الشاي، والبسكويت، جلست بقربها، وسكبت لها كأساً منه، وقدمته لها، ثم قالت: _آه يا غزالة، لقد اشتقت لرؤية أبو عزو، لقد حرمتني خطبته لي أن أراه. _يا ويح قلبي عليك، والله إنني أشعر بك يا صديقتي، الويل لأمك وأختك، ما يضيرهما إن تزوجتِ؟! _لا تريدان أن ترياني سعيدة، ومرتاحة، لا تريدان أن تخسرا الخادمة المطيعة؟! _لا سامحهما الله، إنهما مثل أمي بتفكيرهما المتخلف الأناني، لقد دمرت حياتي أيضاً. تنظر بشرى لغزالة بعينيها اللتين اجتاحهما حزن قاتل، وقالت: ترتشف غزالة رشفة شاي، وتقول: تضحك غزالة بصوت عال، صوت مليء بشجن عتيق دفين، ثم تقول بعد أن تهدأ كنيران أطفأتها مياه بحر جارفة: _بل أفظع من الرفض يا صديقتي، أمي، وأخواتي ينشرن عني أنني عاجزة، ولا أستطيع الزواج، وأن هذه المسؤولية أكبر مني، تصوري أنني اكتشفت أنه هناك من كان يخطبني في قريتنا، ويُرفض الأمر، حتى بدون إخباري به! ضحكة بشرى المترافقة مع دموع عجزت عن كتمها، مزقت قلب غزالة: _نعم، نعم، وهذا ما تجاوب به أمي، ومايسة كل من يريد خطبتي، إنهما تقولان أنني عاجزة لن أستطيع تحمل أعباء الزواج! وقفت غزالة بسرعة، واتجهت نحو ماكينة الخياطة، وقفت بجانبها، وقالت بقهر، ومرارة مؤلمة: _من تستطيع رعاية بيت أهلها، وتربية إخوتها، وأبنائهم الصغار، والعمل في مجال الخياطة، كيف لا تستطيع الزواج؟!، أي منطق هذا!، أية أنانية! تسحب بشرى جسدها المنهك قهراً، وتتكئ على الوسائد التي أحاطت بها جوانب خيمتها، وتقول: _لقد ذكرتني، كم كنت أتعب من أعمال البيت الجمّة، الغسيل، والطبخ، وحليب الأبقار، وصنع الأجبان دون أن أشكو. لم تستطع أن تكمل بشرى لغزالة تعبها في أعمال بيت أهلها الكبير، فاختنقت بدموع الغبن، والسخط والضعف. كان بيت أهل بشرى بيتاً كبيراً، متعدد الغرف، واسع المساحة، يقع على هضبة مرتفعة من بلدتهم الريفية، ذات الطبيعة الخلابة، سبعة أخوة مع الوالدين، مسؤولية بشرى التي لا يقبل منها بأن تقصر بأي عمل منها. الجميع يذهب للعمل في الحقل، وأمور البيت المتعددة، وأعماله الشاقة مهمة فرضت عليها من الأهل، لكن القسوة التي كانت كسياط جلاد لا يرحم كانت أشد وطأة على بشرى من ذلك الشقاء. لن تنسى بحياتها طريقة أمها بإيقاظها صباحاً، لتقوم بأعمالها اليومية، كانت تركلها بقدمها بقسوة على ظهرها ورأسها وقدميها، كيف كانت تعنفها، حين تكسر كأساً وهي تنظف الأواني، وترميها بأبشع الكلمات، وأقسى الألفاظ، وتقول بغضب: _ (إذا كانت قدمك معلولة، ما دخل يديك!). _أنت أيضا أمك ترفض تزويجك؟ لم تستطع أن تقول لغزالة أن أمها كانت تحذرها من المشي أمام الضيوف كيلا يرون مشيتها العرجاء، وكيف كانت تقول لها: _خبئي رجلك المعلولة عن الناس، ألا ترين أنها نحيلة، ومخجلة!