ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
لم تكن راضية عن خروجه في المظاهرات، واشتراكه فيها..
حبهما البريء، والذي نشأ بينهما بعمر مبكر، وكبر معهما، كان يجعل من الحياة أمامهما، كرنفال فرح ضم أطياف السعادة بجميع ألوانها،
فكانا يستعجلان الليل في الرحيل، لتشرق شمس الصباح معلنة اقتراب اللقاء المنتظر في المدرسة.
فيحاء ذات القوام المياس، والضحكة المميزة، والعينين البراقتين، واللتين تشعان ذكاء وفطنة.
أما حسام الفتى النحيل، صاحب الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين، والابتسامة المرسومة على شفتيه أبدا.
بدأ حبهما في مدرسة القرية، بين صفوفها التي كانت مسرحا لحب صادق، تنقلا بين ظلاله كطيرين انطلقا توّا للحياة في جو ربيعي جميل.
مرت المرحلة الإعدادية عامرة بالوله والهيام، ولا يخلو كل هذا من المغامرات، فكم كانت اللقاءات الليلية محاطة بأخطار تكاد توقف القلوب،
كان حسام كل ليلة يتسلل لبستان الكرز الملتصق ببيت حبيبته، ليجلس على شجرة كرز كبيرة، تفرعت أغصانها، وتمددت كسجادة تشابكت خيوطها بإتقان، وتجلس فيحاء تحت الشجرة، ويتبادلان أحاديث الغرام والشوق، ويمضيان ساعات طويلة على هذه الحال كل ليلة.
في ليلة من ليالي الصيف الحارة، كان العاشقان غارقان بأحاديث الحب والهوى كالعادة. فجأة تحضر أم فيحاء وتسألها، وعلامات التعجب مرسومة على وجهها:مع من تتحدثين؟!!.
ترتبك فيحاء، ويكسو وجهها الجميل خوف خطف لونه، مما زاد الشك عند أمها، التي راحت تدور حول الشجرة تبحث عن سبب خوف ابنتها.
أما حسام فقد زادت نبضات قلبه، من شدة خوفه، ودون وعي منه، راح جسده ينتفض، فتحرك وكسر غصن الشجرة، وكردة فعل لا شعورية أطلق العنان لساقيه لائذا بالفرار، بعد أن رأته أمها، وأطلقت عليهما وابلا من الشتائم واللعنات.
ساءت الأحوال في المنطقة، ونزح حسام مع أهله للمدينة، حيث كان أخوه هناك موظفا،
ومرت الأيام، وكان الهاتف سبيلهما الوحيد للتواصل، إلى أن جاء يوم وأخبرته فيحاء أنها ستأتي للمدينة مع أمها المريضة لتزور الطبيب،
وفي الصباح الباكر انسل من البيت خوفا من أن يراه أبوه الذي يمانع خروجه إلا للضرورة القصوى، وذلك بسبب خوفه الشديد عليه، من الحواجز المنتشرة بكثرة في المدينة،
وراح يعبر الشوارع غير آبه بأي خطر، فقد كانت مدينة حمص والمنطقة حولها كلها مغضوب عليها من قبل النظام الغاشم آنذاك.
كان صباحا شتائيا باردا، لكن حرارة الشوق في قلبه كانت تقيه ذلك البرد،
راح يتنقل في الكراج بين البولمات باحثا عن ضالته، وكشمس ساطعة لمعت في سماء ملئت بغيوم سوداء، أشرقت حبيبة القلب فيحاء، فتلاقت العيون العطشى في لحظة ارتواء تفيض بالشوق واللوعة،
قاطعتهما الأم التي تذكرت وجه الشاب الذي اختبأ على شجرة الكرز آنذاك.
فأسرعت منسحبة بعد سلام جاف مقتضب، فقد عرفت بذكائها أن هذا اللقاء مرتب له، وليس محض صدفة، كما ادعى حسام، وقال أنه يود إرسال أوراق مهمة مع سائق حافلة ذاهبة إلى العاصمة.
في مساء ذاك اليوم تزاحمت الأحزان والأوجاع، في قلب العاشق الذي غرق في ذكرياته العتيقة مع حبه، وحرك الرماد، ليستيقظ وجع الهيام النائم تحته، خنقته العبرة. فصعد إلى السطح ووقف تحت رذاذ المطر، أشعل سيكارة وراح يعب دخانها كالمدمن، وريح باردة تغرز نصالها في جسده الذي نحل شوقا وعشقا.
كانت فرحته كبيرة حين وافق أبوه على خطبة فيحاء له، أما الأم فقد وافقت مرغمة.
تمت الخطبة في القرية حيث لم يحضر حسام، وذلك تجنبا لخطر الحواجز.
اقتصر الحضور على الأب والأم وأهل فيحاء فقط، لكن ذلك لم يحرم حسام وفيحاء من الفرح بهذه المناسبة التي كانت حلمهما منذ أربع سنوات.
بعد ثلاثة أسابيع ذهبت أم حسام لزيارة خطيبته، فحدث ما أنهى تلك الخطبة، فقد تعمدت أمه إخبار فيحاء وأمها أنها لم تكن موافقة على خطبتهما، لأنها كانت تود خطبة ابنة أخيها لحسام.
جن جنون أم فيحاء. فجاء الرد مباشرا، أعادت لها خاتم الخطبة وكل ما قدموه لها، وتم فسخ الخطبة، لتنهار أعصاب حسام بهذا الحدث، الذي هدم أبراج سعادته التي بناها بشغف الصبابة والود منذ نعومة أظفاره.
حياة الجامعة بما فيها من وجوه جديدة، ساعدته قليلا في تخطي تلك الأزمة التي حطمت أمانيه وكسرت روحه.
في أحد الأيام كان يزور أحد أصدقائه في كلية التربية، سمع صوتا كتغريد طير الكناري، يغرد في حديقة الكلية:
ياإلهي إنها فيحاء!!.
أسرع الخطا نحوها، اقترب منها، وقال بصوت كسيل من أفراح عارمة:
فيحاء… نظرت إليه، تأملته بنظرات ازدراء، واستدارت تهم بالرحيل، أمسك يديها وقال:
هل نسيتِ حبنا؟!!
وبعيون ملئت حقدا راحت تتأمله، وقالت:
ألم تزوجك أمك ابنة خالك؟!. ومشت، تبعها، ووقف امامها. قال بغضب:
تعلمين أنني أحبك أنت لا أحد غيرك، وأننا تعاهدنا على تحدي الجميع حتى نتزوج، قالت بعد أن قلبت شفتيها:
أنا لا أريد الزواج من شاب أمه تحدد مصيره، وتختار له زوجته. فكُفّ ولا تحاول، ومضت مسرعة.
خرج من الكلية، وعاد لغرفته في السكن الجامعي، وجنون الكون يتلاعب به.
دخل الغرفة مسرعا، أشعل سيكارة وراح ينفث دخانها، ويملأ به رئتيه، وبلحظة يأس إجتمعت فيها ذكرياته الجميلة معها، وأحداث أيامه الموجعة،
تذكر كيف تخلت عنه حين اعتقل مع بعض شباب المدرسة في الصف الأول الثانوي، وكم لامته على اقحام نفسه في أحداث البلد، ووصفته ( بصاحب مشاكل )،
ضرب زجاج النافذة فكسره. لتجرح يده، ويسيل دمه الذي يفور كمرجل رقصت تحته ألسنة اللهب.
رسالة أبي حسام التي جاءت صباح اليوم التالي غيرت كل مخططات حسام.
فقد طلب منه أن يعود للبيت مسرعا مع السائق الذي سيرسله له،
لأنه علم من مصدر موثوق أن اسمه بين أسماء الشباب الذين سيعتقلهم النظام بسبب خروجهم في المظاهرات، حمل حقيبته وذهب لفيحاء، قال لها:
اسمعي أنا سأذهب للشمال الآن، هل تذهبين معي، ونحقق حلمنا بالزواج؟… وقفت، ومضت دون أن تتكلم، صرخ قائلا:
أنا أحبك، تعالي معي، إنها آخر فرصة لنا.
التفتت إليه، رفع يده كأنه يدعوها لتنضم لعالمه دون كلام، استدارت، وأسرعت تاركة وراءها حسام بين الخيبة والصدمة يرزح بحزن.
ركب حسام السيارة التي تكفل سائقها بتوصيله للشمال بأمان، ودون أن يتعرض لأذى حواجز النظام،
وبعد أن ودع أهله ودموعه تمزق روحه، وإحساس كبير يخبره أن هذه أخر مرة يرى فيها أباه الذي أهرمته مخاوفه على حسام في هذه الحرب.
ألصق وجهه بزجاج السيارة الخلفي، وراح يراقب أهله وأيديهم الملوحة المودعة والداعية له بأمان وسلام أصبحا مفقودا بين الأهل وفي حمى الديار المغتصبة.