ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
العاصفة الهوجاء التي تلعب بحبال وعوازل الخيام، كانت تحدث ضجيجا مزعجا، لم يسمح لي بالرقاد تلك الليلة.
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، حيث نام جميع سكان المخيم، بعد أن أخذوا بالتدابير والاحتياطات، محاولين الحفاظ على خيامهم من الغرق، فحفروا السواقي حول الخيام وهذا مايسمى( بالون )، وتأكدوا من قوة الحبال المثبتة للخيام، والبعض ركز أواني كبيرة، لتحتوي ما يتسرب من بعض الثقوب، الذي قد تسببه غزارة الأمطار في هذه العاصفة العنيفة.
باءت كل محاولاتي المتكررة بالرقاد، بفشل ذريع، فأنا كمن يسبح بقلب زوبعة تدور به دون توقف، والأصوات العالية تهزني من كل جانب.
نهضت، وتفقدت الخيمة والسارية الحديدية التي قويت بها، وشدت إليها الحبال لتثبيتها.
مررت ب( البلوك ) الذي حدّدنا به أرض الخيمة، للتأكد من عدم تسرب مياه الأمطار من بينه، او من التراب تحته.
نظرت لأمي النائمة بالقرب من باب الخيمة، مكانها الذي اختارته للنوم منذ أول ليلة لنا في المخيم، والذي عرفت لاحقا لماذا اختارته، فكما قالت لنا، حين طلبنا منها تغير مكان نومها، لتتجنب البرد المتسلل من شقوق باب الخيمة:يا بناتي نحن ( حريمات )،
غرباء في أرض غريبة، وصار بيتنا خيمة، لا باب لها يقفل، ولا سور يمنع عنا ما نخشاه، وقد ضمّ هذا المخيم أناسًا لانعرفهم، لذا يجب أن أنام هنا بالقرب من الباب، حيث أكون بالمرصاد لأي زائر في الليالي السوداء، كلصٍّ، أو غيره، ليس لدينا رجل نعتمد عليه ويدافع عنا.
حملت غطاء سميكا وغطّيتها به، وكذلك فعلت لأختي سمر وسحر، وعدت لفراشي أرتجف من شدة برودة جو الخيمة.
أفزعني اهتزاز جوّالي، الذي كان بالقرب مني، تساءلت:
من يراسلني في هذا الوقت المتأخر؟!.
فتحت الجوّال، وأنا أكاد أسمع دقات قلبي من الهلع، فبهذه الأحداث الدامية، بتنا نخاف من أي رسالة تأتينا، قد تحمل خبر وفاة عزيز، أو هدمًا جديدًا أو خسارةً جديدةً.
غرقت عيناي بالدموع حين وقعت على صورة بيتنا الذي أرسلها لي ابن خالي، فهو يعلم حُبِّي وتعلُّقي ببيتنا،
كتب تحت الصورة:
ولأنّي أريد أن تفتحي عينيك على صباح يملؤه التفاؤل، فقد أرسلت لك صورة بيتكم، إذ أننا، ولله الحمد استطعنا رد بغيهم وشرهم عن القرية وحماها، صباحك أمل بالنصر و العودة.
ابن خالي أحد ثوار قريتنا، التي نزحت عن بكرة أبيها دفعة واحدة، وذلك لأنها تقع في منطقة عالية تساعد الثوار على ترصد حركات النظام وصيده وتكبيده الخسائرة في هجماته الباغية على المنطقة كلها.
تأملت الصورة جيدة، وقمت بتكبيرها لأرى أدقّ تفاصيلها، بيتنا الحبيب، الذي تربِّينا فيه، كبرنا بين جدرانه الحانية، لعبنا ب( حوش ) الدار، وركضنا بين أشجار( الحاكورة)، وكم نصبنا الأراجيح بين أشجاره الكبيرة.
ذكريات حفرت في الصميم،
شردت روح هائمة بمتاهات الذاكرة المتوجعة، في آخر يوم كان لنا في القرية، حيث نزح الجميع، ركبت أمي مع أختي في السيارة التي استأجرناها لتنقلنا إلى الشمال، حيث نصبت الخيام وتكاثرت المخيمات كفطر في شتاء ضبابي، حملنا كل مانستطيع حمله من أغطية وطعام مهيئ مسبقا للشتاء( كالزيتون والمكدوس والخضراوات المجففة تحت شمس الصيف الملتهبة )، وما زلت أذكر كلام أمي في كل مرة كنا نعمل في تجهيز مؤنة الشتاء، تحت خطر القذائف ووحيف البراميل المتفجرة:
( الله أعلم هل سنعيش لنأكلها، أم أننا سنموت تحت هذا القصف القاتل).
جلس الجميع في السيارة منتظرين طائرة الاستطلاع أن ترحل عن سماء القرية، فقلت لأمي وقد بدأ الحنين يغزو روحي للبيت قبل أن نتركه:
أمي لقد نسيت أن أحضر هويتي وبعض الأوراق، ولأني أعلم أهميتها عند أمي فقد نجحت بإقناعها بالسماح لي بالعودة للبيت في تلك اللحظات الحرجة والخطيرة.
عدت للبيت، وقلبي يركض أمامي شوقا إليه، مررت بنظري على أرض الديار الواسعة وماتحتويه، وفيض من الدموع يسكب منهما.
أشجار الليمون المزهرة، والتي فاح عطرها في المكان، وأشجار الزيتون المثقل بحبات الخير والبركة، وشجرة اللوز والتين اللتان تقابلتا لسنين طوال كحبيبين عاشقين ربطهما حب لا يفنيه شيء، أحواض الورود والزرعات الخضراء التي جعلت من أرض الديار جنة صغيرة تبهج النفس، دخلت مسرعة للغرفة محاولة استغلال الوقت القصير، وكطير ملاحق بسهام صياد ماهر، رحت أتنقل من غرفة لغرفة، وهامت عيناي في كل تفاصيل البيت، وقد نسيت أنني أتعرض للخطر بهذا.
أطلق السائق زمورا أيقظني من غفلتي تلك، وصراخ أمي الذي يناديني، ويستعجلني جعلني أطلق العنان لقدمي لتُسَابِقَا الريح، لكن عيوني لم تأبه لأي خطر، ودَّعت كل ما رأته بدموع الشوق والفراق، خرجت من البيت تاركة ورائي عمرا من البراءة والأماني، لأكون بذلك آخر الخارجين من بيتنا، الذي لم نَرَهُ منذ ذلك الحين، من ثمانية سنين.
راعني صوت دوي قوي، جعلني أعود لبرد الخيمة ووجع النزوح، صوت الرعد الذي ذكرني بصوت القذائف والبراميل، عدت لصورة بيتنا على الجوال، وقد أصابني صداع رهيب من ذاك الحزن الذي نبشته تلك الصورة، ومن الدموع التي تخرج من أوردة القلب المكلوم بعد مشوار في الذكريات المغلفة بالأسى والجوى، والحاضر المعاش بالجزع والرعب، أغمضت عينيَّ وأسلمت روحي المُتَخَوِّفة من قادم مبهم لأحضان الأحلام.