ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
أشرقت شمس اليوم المشؤوم، واعتلت قبة السماء كملكة جلست على عرشها، فتحت هدىٰ عينيها لتقعا على سقف الخيمة، نهضت من الفراش واقتربت من الشباك الصغير، أزاحت الستارة، وراحت تراقب الخيام التي تتزايد يوما بعد يوم، وتملأ الأرض التي خلف خَيْمَتَيْ أهلها.
فمنذ شهر تقريبا، كانت الخيام تُعَدُّ على الأصابع، واليوم راحت تتزاحم على أرض النزوح.
ثوب العرس الذي شدَّ بياضُه نظرها، أشعل نيران قلبها المخبأة تحت رماد الصبر والمكابرة، اقتربت منه، مدت يدها المرتجفة، راحت تتحسس قماشه الحريري، وتتأمل زركشاته الجميلة، وكل قطعة وردة زينته، ونفرت من على الخصر والصدر والأكمام،
راحت تتنقل بذاكرة الحزن المحفورة في أعماق الروح منذ خمسة أعوام، حين اختفى زوجها على إحدى حواجز النظام، في طريق ذهابه إلى عمله في المحافظة، وبرغم بحثها الكثير عنه في السجون، إلا أنها لم تعلم عنه أي شيء، وعاشت تلك السنين الخمس بين اليأس والأمل مع طفليها.
صوت عبد القادر وحنان، أعادها من بحار الذاكرة الجريحة، دخلا الخيمة مسرعين وهما يتسابقان إليها، كل واحد يريد أن يخبرها قبل الآخر بأن الجد يريدها في خيمته.
عبد القادر ابنها البكر، شبيه أبيه في كل شيء، شعره الأشقر وعيناه الشهلاوتان، وذكاؤه الناطق في بريقهما، وأما حنان ذات الثمانية أعوام، والتي لم تأخذ من أبيها سوى نبرة صوته الحنونة، وكأنها ناي حزين،
الثوب المفرود على الكرسي لفت انتباه الولدين، اقتربا منه وراحا يحدقان بعيون التعجب والاستغراب،
سألت حنان:
- لمن هذا الثوب ياأمي؟!!
وقبل أن تجيبها سألها عبد القادر أيضا - نعم يا أمي، لمن ثوب العرس هذا؟.
اتسعت عينا الأم وخطف لون وجهها وارتجفت شفتاها، وتلعثم الكلام على لسانها.
أنقذها من هذا الموقف المميت صوت أخيها وهو يدخل الخيمة: - أين أنت؟، ألم يخبرك ولداك أن أبي يريد التحدث إليك؟!.
أجابته هاربة من بئر الحيرة والعجز أمام نظرات ولديها وأسئلتهما الموجعة: - نعم….نعم….أخبراني….وها أنا قادمة. خرجت مسرعة، ودخلت خيمة أبيها، وتبعها أخاها وولداها، حيث كان يجلس مع زوجة أخيها، أعطى الجد عبد القادر وحنان نقودا، وطلب منهما أن يذهبا ليشتريا مايحبانه من سكاكر وحلويات.
أحزان الأب المتحجرة في عينيه، كانت تنطق بما لا يستطيع لسانه النطق به، قال بصوت ارتجف لكثرة السنين المتأرجحة على عاتقه: - اسمعي يا سعاد، نعلم جميعا أن الأمر ليس سهلا عليك، لكن يابنتي لابد من نهاية لكل هذا، لقد صبرت مايكفي على اختفاء زوجك، ولا أحد يعلم إن كان مازال على قيد الحياة، أو أنه مات، بعد قليل سيأخد أخوك عبد القادر وحنان لبيت جديهما، لقد اتصلت بهم وأخبرتهم بأنك ستتزوجين، واليوم سيكون عرسك،
شهقت بصوت عال، وانفجرت بالبكاء، وقالت: - لكن يا أبي لا…
قاطعها أخوها: - اصمتي، لقد تحدثنا بالأمر كثيرا،
أبوكِ، كما ترَيْن، رجل كبير في السن….. وأنا سأسافر الأسبوع القادم إلى أوربا،
أريد أن أسافر وأنا مطمئن عليك،
أبناؤك مسؤولية كبيرة لن تستطيعي تحملها لوحدك، أما في بيت جدهما عند أعمامهما فسيكونان بخير أكثر ،
يقترب الأب من ابنته، يضع يده على كتفها ويقول: - نعم يابنتي، كلام أخوك صحيح، أنا أيضا أريد أن أطمئن عليك قبل أن أموت، فكما ترين، لم أعد قادرا على تحمل أعباء هذه الحياة، وولداك أمانة ثقيلة يابنتي، لذلك اِرْضَيْ بما قدَّره الله، واصبري على فراق فلذة كبدك.
وبصوت مزدحم بوجع الظلم والعجز أمام قهر لا قوة لها بمجابهته صرخت: - لكن يا أبي لا أريد أن أترك ولديَّ، لا أريد أن أتزوج، أريد أن أرعاهما وأربيهما، هما حياتي وكل فرحة عشتها في دنياي، أرجوك يا أبي لا تحرمني منهما.
تأخذ نفسا بصعوبة، وتستطرد بعد أن تنظر بعيني أخيها: - أرجوك يا أخي، اتصلْ بالحاج أبي محمد، وأخبره بأننا غير موافقين على موضوع الزواج، أرجوك( سأعيش خدامة عندكم )، المهم لا تحرموني عبد القادر وحنان.
تتغير ملامح وجه الأخ الذي تكسوه علامات الغضب ويصرخ: - قلت اصمتي، لا تتفوهي بهذا مرة أخرىٰ، ونهض مسرعا، وقال وهو يخرج من الخيمة:
- سأذهب لأخذ وَلَدَيْكِ لبيت جدهما، وأنت جهزي نفسك، فبعد قليل سيآتي الحاج أبو محمد مع ابنيه وكنتيه ليآخذك لبيته، وننتهي من كل هذا.
نظرت لأبيها الذي أعلنت عيناه الاستسلام، وفاضت بدموع من جمر،
وكأنها تشكو له ضعفها والظلم الذي يساعده أخوها عليها.
قامت بإنهاء مشهد اللوعة التي تمزق الأفئدة، زوجة أخيها… أمسكتها من يدها وقادتها إلى خيمتها،
أدخلتها الخيمة…… أمسكت الثوب وقدمته لها وهي تمسح دموعها…. وقالت: - هيا… يجب أن تجهزي نفسك قبل أن يأتي الحاج أبو محمد، أرجوك يا هدى لا تعارضي، وتعاندي أخاك، لا أريده أن يقوم بضربك كما فعل يوم جاء الحاج أبو محمد لخطبتك، أنت تعلمين أنه مُصِرٌّ على أمر زواجك هذا.
أخذت الثوب من يدها، نظرت إليه، تاهت نظراتها بلونه الأبيض الناصع…. وتساءلت بأسى كبير: - هل أرى يوما أبيضا بعد أن أرتديك؟، لقد خسرت زوجي وولديَّ عبد القادر وحنان، وها أنا أجهز نفسي لمصير مجهول لا أعلم ما يخبئ لي من أوجاع جديدة.