ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
كنحلة نشيطة، كانت تعمل منذ شروق الشمس وحتى غروبها،
فكانت تبدأ مسيرة عمل كل يوم بعد الانتهاء من حلب البقرة، وتنظيف الحظيرة باكرا، تكلّف أختها كاميليا بصنع الجبن واللبن، وتتساعد مع كِندا بترتيب البيت وتنظيفه، ثم تصنع طعام الفطور، وتوقظ أباها وأخويها خالد وصابر، وبعد الإفطار تقوم بصنع ( القهوة المرة )، وتضعها في مضافة أبيها المختار، ثم تحمل ( صِرَّة الطعام ) لها ولإخوتها في بستان الكرز، أو أرض التل الكبيرة الممتدة على طول الجهة الجنوبية للبلدة، فقد اعتادوا على زراعتها بالخضراوات الصيفية كل موسم.
كفاح الابنة الكبيرة لأبي خالد، والقريبة من أبيها أكثر من أختيها كندا وكاميليا وأخويها الشابين خالد وصابر.
فهي تدير أعمال البيت بإتقان عالٍ، وتساعد أبيها بشؤون الأراضي التي يملكها، فكانت تفهم بأمور البذار والرّيِّ والقطاف والبيع، حتى أكثر من خالد وصابر، ربما يعود ذلك لكونهما يهتمان بدراستهما أكثر من أمور الزراعة.
فكانت تنوب عن أبيها في أثناء انشغاله بأمور المخترة، وكأنها نائبه الوفي الذي لا يقصر في واجابته أبدا.
روحها المرحة كانت سفيرا لكل القلوب، رجالا ونساء، كانت محبوبة جدا، وتكاد تكون صبايا البلدة كلها صديقاتها.
عيناها الواسعتان اللتان تربعتا فوق خدين أخذا حمرتهما من حبات الكرز اليانعة، كانتا كيمامتين تلونتا بلون التراب، وصبغت بها شفتيها المنفوختين كتلك الحبات، قامة ممشوقة تفعم بالحيوية والأنوثة، جمال جسد عانق جمال روح جذب إليها كل من يعرفها.
بعد الانتهاء من تعبئة آخر صندوق كرز، اتجه خالد وصابر بسيارة الحمولة قاصدَيْن سوق المدينة، وعادت كفاح وأختيها للبيت، وقد أخذ التعب منهن ما أخذ.
كانت مضافة المختار فارغة على غير عادتها، إلا من الحاج ابراهيم والخال مصعب، وقد كانت أصواتهما مسموعة بحيث تخبرهن من يجالس أباهن.
لم تنم كفاح كما فعلت أختاها طلبا للراحة بعد عناء يوم مجهد، فقد آثرت أن تكمل تطريز ثوب (صباحية عرسها)، والذي بدأت به منذ شهور، ولكن عملها الكثير في الأرض جعلها تتأخر في إنهائه.
اعتادت بنات البلدة والمنطقة كلها، أن يطرِّزْن بالحرير الملون صدر الثوب الأبيض، ويخبئنه مع مايخبئن من ثياب جديدة، حتى إذا جاء نصيبهن، يخرجنها ويتفاخرن بها، وخصوصا هذا الثوب الذي طرز بأنامل من أمل، وخيوط من أحلام وردية نثرت على القماش الأببض، زهور ملونة تراصت على الصدر، وتدلت كعناقيد الثريا فوقه، والتفت أشكال هندسية، رسمت ببراعة فائقة على الخصر الذي صاحت الألوان الزاهية لتصنع قوس قزح بديع.
صَمْتُ المكان وخُلُوِّه ممن يسبب الجلبة، جعل من صوت من في المضافة، ينساب بسهولة وسلاسة إلى أذني كفاح، فقد أفزعها صوت خالها مصعب الذي قال محتدا:
- يارجل ماذا تقول، هذا رابع خاطب لكفاح في هذا الشهر ترفضه، وكلهم شباب من أكارم الناس، وأنت أعلم بهم مني، لماذا ترفضهم؟، ألم تنتبه لأن ابنة أختي المرحومة تكبر؟، إنها تخطت السابعة والعشرين، وهذا مايجعلها تفقد الكثير.
يقطع حديث الخال صوت الحاج ابراهيم، الجار المقرب من المختار، والمطلع على أموره: - نعم هذا صحيح يا أبا خالد، أنت ترفض الخاطبين حتى من غير أن تسأل كفاح عن رأيها، لقد انزعجت جداً حين رفضت الأستاذ سليم ابن رئيس الجمعية الفلاحية، وأهل البلدة كلهم يشهدون له بأخلاقه الحميدة، وأدبه وطيبة أصله، إنه شاب تحلم جميع الصبايا به.
صوت ضحكة الأب المحببة لكفاح تسكتهما، ثم يقول وقد تسربت في نبرة صوته شذرات من حزن: - مابكما؟!، أعلم كل ماتقولانه، لكنني لن أفرط بابنتي وسندي كفاح…
إنها تفعل ما أريد فعله حتى من غير أن أطلبه منها، هي أنا، وأنا لا أستطيع أن أكون بدونها، (لن أزوجها وأعمّر بيت الغريب، وأخرب بيتي )، نعم أنا رفضت الكثيرين، وسأرفض، لأنه لم يخلق بعد من يستحق أن تكون كفاح له!!
نزلت كلمات الأب كصاعقة على قلب كفاح، كيف… لماذا… ما ذنبي لأكون ضحية قرار قاتل كهذا؟!!
عشرات الأسئلة تزاحمت في رأسها، وتشابكت الأفكار وعصفت في الروح أوجاع صعقت القلب الحالم البريء.
كانت ليلة ثقيلة شديدة الظلام برغم سطوع القمر والنجوم في السماء، فمصدر الظلام كان الحديث الذي سمعته كفاح من المضافة، كمن ينام على جمر يحرقه، كانت تتقلب، وقد رحل النعاس عن عينيها المتورمتين من كثرة البكاء.
تركت فراشها، وانسلت بهدوء كي لا تشعر بها أختاها النائمتان بالقرب منها، فتحت خزانتها، أخرجت الثوب الأبيض الذي بقيت وردتان منه لم تنهِ تطريزهما بعد، لبسته، وخرجت إلى أرض الديار.
الهدوء يعم أرجاء البلدة، وأهلها غارقون في نوم عميق، فالوقت يقارب الثالثة صباحاً، تحت ضوء القمر راحت تدندن وترقص رقصة( صباحية العرس)،
فكانت كزهرة تحركها رياح ربيع، تتلوى بالخصر النحيل، والجيد المفعم بالشباب والأنوثة، وثوبها الأبيض يفرد أجنحته حولها كهالة طوَّقَتْ بدراً اكتمل الليلة، رقصت بجنون عاشق فقد حبيبه، فتناثرت دمعات ملتهبة من عينيها، ونزلت لتستقر على زهرات الحرير المتعطشة على بياض الثوب، فتروي ظمأها، كندىً في صحراء قاحلة!!.
أشرقت شمس اليوم التالي، لتحرق قلوب أهل البلدة بفجيعة موت كفاح، التي وجدها أهلها ممددة في أرض الديار وقد غطى التراب ثوبها الأبيض ووجهها الجميل، لتودع الحياة بارتدائها ثوب عرسها، وكفنها، والذي ودعت به الحياة برقصة عرس لم يكتب له أن يكون!!!.