صندوق الأماني

202

ريما خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق

في زاوية الخيمة الزرقاء، استقر منذ سبع سنين، كأنه عجوز البيت التي لاتبرح المكان، لم يترك تلك الزاوية التي ثُبِّتَتْ قوائمه الأربعة على ترابها،
وبرغم أن أرض الخيمة قد صبت بالإسمنت، إلا أنه بقي على أرضه ثابتا،
صندوق حديد مطلي باللون الأحمر… وله قفل صغير يتوسط بابه المزخرف بطريقة فنية بديعة.
تلك الخيمة الصامدة أمام رياح الشتاء وأمطاره وزمهريره، وحر الصيف الملتهب وقرِّهِ، والتي ضمت بين جدرانها القماشية الحاجة أم رئيف ذات الخمسين سنة، والتي نطقت المحبة والطيبة من عينيها الغائرتين في حفرتين كانتا بفعل ضعف جسدها، وزوجها الأصمّ، الذي انحنى ظهره لتقدمه في العمر.
كانت الحاجة أم رئيف محبوبة من جميع سكان المخيم، لحبها لعمل الخير.
فهي القابلة التي ولَّدت الكثير من نساء المخيم، وأكثر الأطفال ينادونها ب( الجدة).
وكانت تجبر المكسور بجبار عربي من ( بياض البيض وبرش من صابون جاف)، يوضع على قطعة قماش لم تبل بالماء بعد، وتصنع مرهما للحروق والجروح، وذلك بطحن أنواع معينة من الحبوب، ومزجها بدواء ومعقم، وتعطيه لمن يحتاج إليه،وتقوم أيضا (بتمتين وتدريع ) الأطفال الذين تعرضوا لشد مفاجئ لأحد أطرافهم وسبب لهم الألم.
فكانت كطبيب ماهر تعالج بالأعشاب والطب العربي الذي تصنعه بيديها، كل من تستطيع علاجه بخبرتها الطويلة.
فكم من الليالي أيقظها خائف على زوجته التي تعاني ألم الولادة!!.
وكم سهرت على طفل، محاولة تخفيض حرارته!!.
وكم تابعت علاج حالات حروق بمداواتها يوميا، دون أن تتقاضى أي أجر، بل كانت تشتري المواد الأولية لأدويتها على حسابها الخاص، مع أن وضعها المادي بسيط.
فكانت أم الجميع والحانية على أوجاعهم في غربتهم المفروضة عليهم بمخيمات الفقر والجور.
أنهت الجدة دهن حروق ناصر ابن الجيران، وأعطته لأمه كي ترضعه ويسكت، فقد ملأ بكاؤه الأرجاء من شدة ألمه.
انتبهت أم رئيف لعيون أم ناصر المشددوة نحو الصندوق. فحركت يدها أمام عينيها لتصحو وتنتبه لها. حركت أم ناصر رأسها وضحكت، ثم قالت:صندوقك يا خالة يجذب الأنظار، ويخلق في النفس الأسئلة.
تنهدت أم رئيف، وقالت:

نعم، وكل الأطفال الذين يدخلون الخيمة يحاولون فتحه، وكم تلقيت أسئلة عن هذا الصندوق !!.
ثم ضحكت بصوت عال وقالت:

بعض الناس يظنون أنه مليء بالمال.
فقالت أم ناصر:

يا خالة والله احتفاظك به، وعدم فتحه أمام أحد يجعل من الجميع يتساءلون، ويعتقدون أن لهذا الصندوق سر كبير.
تنفجر ضحكة من ثغر الحاجة أم رئيف، الذي اكتنز بشفتين غليظتين، ويتبع تلك الضحكة المجلجلة دمعتان سريعتان، وكأنهما خرجتا بعد انكسار سد منيع.
قامت واتجهت نحو الصندوق، جلست أمامه، أخرجت من تحت ثيابها مفتاحا معلقا برقبتها بخيط قطع من ثوب عتيق.
فتحت الصندوق، توقفت عيناها على جوفه لدقائق، ثم التفتت على أم ناصر وقالت:

انظري لهذا الكنز الذي أخفيه عن أهل المخيم،
مدت أم ناصر رأسها مسرعة، لتعرف ذلك السر الذي حيَّر كل من دخل هذه الخيمة.
فصدمت لما رأت!!.
أخرجت الحاجة كل مافي الصندوق، أمسكت ظفيرة شقراء كانت مجدولة مربوطة بشريطة بيضاء، عليها أثر دماء جافة، قالت بصوتها المرتجف الحزين:

إنها ظفيرة ابنتي ختام. لقد قمت بقصها قبل ان ندفنها حين استشهدت بشظايا القصف على مدرستها.
حملت علبة صغيرة وردية اللون محلاة بقماش المخمل، ومرصعة بقطع الكريستال الفوسفوري الجميل، فتحتها وأخرجت منها خاتما من فضة حفر عليه اسم رئيف، وقالت وفي عينيها سيل من الدموع:

إنه خاتم خطبة ابني رئيف الذي اشتراه قبل خروجه للمعركة مع رفاقه، وقد اتفقنا أن تكون خطبته بعد عودته، تشهق ببكاء ونحيب وتتابع:

لقد عاد مضرجا بدمائه بعد أن أبلى بلاءا حسنا مع رفاقه في المعركة.
ثم تفتح كيسا من قماش ربط فمه بخيط، لتخرج مفتاحا كبيرا قد غطاه الصدأ، وتقول بحرقة:

مفتاح باب بيتنا، إنه آخر ماحمله زوجي قبل نزوحنا إلى هنا. لقد وضعه في هذا الصندوق وقال لي:

خبئيه في الصندوق ليوم عودتنا لبيتنا وديارنا، وابتلعت ريقها بصعوبة ثم اكملت:

وكان هذا آخر شيء نطق به، ومن يومها فقد قدرته على الكلام وأصبح أخرسا ينتظر ذلك اليوم الذي نخرج به هذا المفتاح ونترك هذه المخيمات عائدين لبلادنا.

قد يعجبك ايضا