ريمة خطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق
عواصف الجوع التي كانت كمقصات تقطع معدته طوال الليل، لم تسمح له بالنوم والرقاد، فقد آثر أن يطعم أولاده الصغار كسرات الخبز الجاف، الذي بقيت منذ يومين، فتح عينيه الحمراوين بعد حرب ضروس كانت بينهما وبين النعاس، وقعتا كالعادة على سقف الخيمة المهترئ، المرقع بقطع قماش سميك، جلس وبقي في الفراش، نظر إلى أطفاله الصغار، سميح وعبد الوهاب وقاسم، وقد غرقوا في نوم عميق، ثم نقل نظره لزوجته التي استطاعت النوم برغم جوعها، وذلك لحصولها على لقيمات قليلة مع أطفالها، أسكتت بها صراخ معدتها الخاوية.
نهض وراح ينفض عن جسده آثار عراكه مع أوجاع ليلته القاسية، أغلق سحّاب الخيمة، ووقف أمام الباب، حدّق بإمعان بكل شيء وقعت عيناه عليه، خيام الجيران المتفاوتة الألوان، بين الأزرق والأبيض، والأبيض المغطى بوحل الشتاء، السواقي الممتدة بين الخيام والتي اتسعت طرداً مع قوة تدفق المياه، الحاويات الموزعة بالعدل، بين كل خمسة خيام حاوية (والتي هي عبارة عن نصف برميل مازوت) قسم لنصفين، ولُحِمَ به مقبضان، لحمله حين يمتلئ بالنفايات.
عاد بنظره لداخل الخيمة حين أخذت تتزايد قرصات معدته الجائعة، نظر لزوجته وأطفاله، وقال في سره:
(يجب أن أدبر أمري، وأشتري ربطة خبز، سيستيقظون بعد قليل جائعين، فعشاء البارحة لا يسمن ولا يغني من جوع).
لبس جاكيته الجلدي الذي قدمته له الجارة الطيبة الحاجة خالدية، فتش جيوبه آملا أن يجد ما يشتري به خبز الفطور، فأجرة عمل البارحة لم تؤمن سوى ثمن كيلو بطاطا تم طهيه ليلة البارحة.
فعمله في العتالة ليس دائماً، فهو من بين العشرات من الشباب الذي يقضون يومهم واقفين في سوق (الهال) ينتظرون من يطلب منهم تحميل حمولة سيارة خضرة أو فاكهة، وهكذا…
فالعمل في المخيمات قليل، والعاطلين عن العمل كثر.
والنزوح القسري قد خلّف الفقر بعد الغنى، والفاقة بعد الستر.
فهذا كان يملك بقالية في بلده وقد خسرها بعد أن دُفِنَتْ تحت الركام، وهذا بكى الماكينات وعدة الخياطة، مهنته ومصدر رزقه، وذاك احترق قلبه باحتراق محله لتصليح السيارات، فوجد نفسه مجبراً على العمل في العتالة، ليؤمن لأبنائه قوت يومهم.
أبو سميح مثل باقي الرجال المكسورين، المرغمين على تقبل الوضع الجديد بعد النزوح، والتأقلم معه بكل ضغوطاته وجوره وإهاناته واستحقاره.
على حافة الممشى أمام إحدى المحلات في السوق، جلس أبو سميح مع بعض الرجال، منتظرين أسباب رزقهم على جمر الجوع وغلبة الحال وقهر ضعف الرجال، صرخ أحد التجار بعد اتفاقه على صفقة شراء سيارة فواكه:
يا شباب أريد خمسة عتالين، يحملون سيارة البرتقال، لكن بسرعة لأني في عجلة من أمري وطريقي طويل.
كسيل جارف اندفع الرجال، ساعين لهذه الرزقة التي ستخفف من مرارة الحياة عند الأطفال المنتظرين عودة الأب والسند بما تشتهيه أنفسهم الراقدة كصغار الطيور تحت قماش الخيام.
تدافع الرجال وكلٌّ منهم يطلب أن يكون أحد العمال الخمسة، تزحلقت قدم أبي سميح ببقايا الخضار المرمي على الأرض، فسقط وداسته الأقدام التي لم تستطيع الابتعاد عن الجسد الذي ارتمى تحتها، وتوقف عن الحركة.
فتح أبو سميح عينيه ليجد نفسه في النقطة الطبية القريبة للسوق (المستوصف)، وقد لفّ رأسه بالكثير من الشاش والقطن، وجبرت يده، وشدت قدمه التي أصيبت بتمزق، بمشد طبي.
نقل عينيه بين الطبيب والرجال المسعفين له، ثم راح يعد إصاباته، ويقول في سره:
(ماذا سأحمل بيدي لصغاري الذين ينتظرون عودتي آخر النهار؟، بماذا سأفرح تلك الأفواه الصغيرة التي تركتها خلفي ترزح تحت سياط الجوع في خيمة الذل والمهانة).
وأغمض عينيه علّه يجد في عتمتهما جواباً لأسئلته الموجعة، ويشفي صدره المعتل بأجواء التعب والعجز أمام كل هذا القهر.