ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
لفتت انتباهي تلك العيون الشاردة في عالم آخر، برغم وجودها بين المتنزهين في الحديقة،
امرأة في عقدها الثالث، شاحبة الوجه، هزيلة الجسم،
افترشت عشب الحديقة الأخضر،
أصابعها التي تقطع العشب وتتركه كرضيع خطف من على صدر أمه، كانت تثير فضولي،
اقتربت منها وسألتها، بعد التحية:
-من أنت؟، يبدو أنك فتاة عربية،
_ وأنا أيضا عربية،
جئت لأوربا لاجئة مع أولاد من سوريا، تهريبا عبر البحر، فقد صار من المستحيل العيش تحت براميل الغدر، والقصف المستمر، كنت أسأل وأجيب، وأعرف عن نفسي، لأكسر حاجز الغرابة، وأروي فضولي، حدقت بي مستغربة طريقة كلامي معها. نفضت يدها من التراب والأعشاب، وقفت، تنهدت وقالت: وأنا من سوريا، جئت هربا أيضا، لكن ليس من القصف والقتل، لكن من الذل والعار.
وفاضت دموعها تغسل وجنتيها السمراوتين:
_ أخي وأبي نفرا للجهاد ضد الطغيان منذ بداية الأحداث في سورية،
فكانا مع ثوار حيينا يدا بيد، يقضون الشهور والأيام على الجبهات، وكنا لا نراهما أنا وأمي وإخوتي الصغار كثيرا،
في ليلة شتائية باردة، تم تطويق حينا بأكمله بالدبابات، والسيارات، والكثير الكثير من العساكر المسلحين،
كانت حملة مداهمة واسعة، أخذوا فيها جميع شباب الحي، وبعض العجائز وأربع بنات، وأنا كنت منهن،
كانوا يدخلون البيت شاهرين أسلحتهم، ملقَّمة، جاهزة لقتل من يعترض أو يتساءل،
ساقونا لمخفر الحي، ووضعونا في سجنه،
في اليوم التالي أخذوني والبنات الثلاث في سيارة لفرع الأمن،
وفي الطريق تسنى لي، وخلسة، أن أبعد العصاب عن عيني، وأسترق النظر لما يدور حولي.
البنات معصوبات العينين، وعسكريين يحملان البنادق، وطريق طويل على جانبية ترسخت الجبال،
فرقونا، ووزعونا كل واحدة في نزنزانة.
وحيدة بين جدران نبت عليها عشب البغي، كنت أمضغ أفكاري التي بدأت صغيرة، وكبرت لتصبح أكبر مني،
لم تمتد إلي يد لتضربني، ولم أصعق بالكهرباء، ولم أُمَدَّدْ على بساط الريح،
لم يحدث أي شيء مما توقعت،
لكن ما عشته كان أفظع وأبشع،
بدأ الليل الذي كان يتوشح ساعات النهار، فالظلام والهدوء والوحشة، قواسم مشتركة بينهما،
صياح المعذبين سكاكين كانت تخترق أذني، لتجعل من مخيلتي ورشة عمل لاتكف عن تخيل ما يحدث بأصحاب هذه الأصوات المعذبة،
إحداهن صرخت:
-أرجوك، فك قيودي، وأنزلني،
لقد تشنجت يداي ورقبتي،
لم أعد أحتمل.
عرفت أن قارورة مشبوحة ماضية في عالم الوجع تعاني،
وصوت صراخ يعلو ويعلو، ليحدث ضجيجا، كضجيج سوق تسابق البائعين فيه، فتحول لصخب قاتل،
أما ذلك الصوت الحنون الذي هيج خلجاتي، وأثار دموعي:
اضربني أيها الحاقد، اضرب امرأة بعمر أمك، أتظن أنني لو أعرف شيئا مما تفتريه، سأعترف به لك!!، لا والله، لن أشتري راحتي من تعذيبك بأرواح من حملوا أرواحهم على أكفهم، ليدافعوا عن الأرض الطاهرة التي دنستموها ببطشكم. هي امرأة مسنة، تتعرض للضرب والإذلال لتوقع بشباب الثورة، لكنها صمدت تحت سياط الظلم والجحود. هكذا رأيتها بمخيلة الرحمة والمودة في قلبي، برغم أنني لم أرها!! صبية في الخامسة عشر، صاحت: -أبي وأخي قتلهما رئيسكم، وأنتم الآن تسلبون شرفهما، تلوثون عرضهم أيها الأوغاد، يامن تدعون أنكم تسهرون على أمننا وحماية عرضنا، اغتصبها بالوحشية التي تربى عليها، في مؤسسة البطش والقمع. كنت أضغط بكفي على أذني لأمنع دخول هذه الأصوات لقلبي المنفطر، لكنها تأبى إلا أن تذبح روحي بأوجاع أصحابها. لم أعد أحتمل، ضاق نفسي، ورحت أنتفض كمن صعق بالكهرباء وهو مبلل بالماء، أطلقت صرخاتي المتتالية دون انقطاع، كمن مسَُه جان، فتحوا الباب، وقفوا: مابها؟!
_ يبدو أنها مجنونة،
_تعال نخبر سيدي عنها،
أفقت بعد يومين لأجد نفسي في مصحٍ للأمراض العقلية!!.
بقيت هناك اسبوعين، ثم هربت بمساعدة طبيبة تعاطفت معي، بعد أن سردت لها قصتي، وهي من ساعدتني بالمجيء إلى هنا،
ومنذ شهرين أنا أتعالج عند طبيب نفسي، علِّي أستطيع نسيان تلك الأصوات الجريحة،
المنبعثة من نبضات شقائق الأحرار.