ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
فُتِحَ بابُ الزنزانة ورُمِيَ بمها المغمى عليها بين المعتقلات السبعة اللواتي سحبنها ووضعنها على بقايا البطانية المفروشة على الأرض، خلعت الحاجة نورة ثوبها السميك وراحت تمسح دماء مها التي كانت تخرج من أنفها وفمها، وتوزعت بعض الجروح على جسدها من شدة التعذيب، فقد اعتُقلت قبل يومين بتهمة التحريض على الحراك الثوري في قرى حماة.
بعد ساعتين أفاقت، وما إن فتحت عينيها المتورمتين اللتين غدا لونهما أزرقاً، نظرت لباب الزنزانة وبصقت ثم قالت:
-اللعنة عليكم أيها الطغاة، لن تثنوني عن قضيتي حتى لو قطعتم جسدي قطعاً صغيرة.
صوت بكاء المعتقلة سناء لفت أنظار الجميع لها، اقتربت الحاجة نورة وضمتها إلى صدرها بقوة وواستها، فهي تعلم أن بكاءها الذي لم تتوقف عنه منذ أن اعتُقلت قبل شهر هو حرقة وخوفٌ على أبنائها الصغار الذين تركتهم خلفها لوحدهم ولا تعلم مصيرهم بعدها.
كعاصفة هوجاء فتح السجان الباب بمنظره القبيح المقرف وقد فاحت منه روائح كريهة، أمسك بالحاجة نورة وراح يجرُّها بسرعة نحو مكتب التحقيق وهو يصرخ بها ويرميها بالشتائم البشعة والكلام الخادش للحياء.
قام المحقق من خلف مكتبه الفخم وراح يمشي ذهاباً وإياباً أمام الحاجة التي أُجلِست على الكرسي ووقف السجان بجانبها.
قال بصوته الخشن العالي:
-ألن تعترفي بجرائمك أيتها العجوز الخائنة؟!، ألم تتعظي بعد كل هذا التعذيب؟؟
قالت بعد أن رمقته بنظرة صقر يرى شيئاً صغيراً من علٍ:
-أنا لست خائنة، أنا ابنة هذه الأرض، أكلت من خيرها وتربيت في ظلّها، شربت من مائها، ومثلي لا يخون.
أوقفت كلماتُها الحادة كسيف شرع لنصرة الحق خطواتَه المنتظمة، واقترب منها أكثر، ثبت عينيه الغاضبتين بعينيها الصامدتين وقال بحنق:
-اسمعي أيتها العجوز الشمطاء، لقد كنت طوال الخمس سنوات في هذه الأزمة الأشهَر والأميز بين المحققين، ولم تقف معتقلة بوجه ماعُرِفت به من جأش وقوة، ومن كانت تحاول فعل ذلك كان مصيرها الموت (صمت لثوان ثم استطرد)، بل كان الموت حلماً لديهن، ففيه راحتهنّ مما هو أفظع من الموت.
قرّبت الحاجة رأسها نحوه أكثر، لمعت بعينيها قوة إصرار وتحدٍّ أكبر وقالت بعد أن رفعت يدها وأشارت بالسَّبابة والوسطى (إشارة النصر):
-أنتَ ومئة ظالم مثلك لن يقفوا بوجه شيء أراده الله ثم أراده الشعب.
وبوحشيَّة مسعورة زمجر غاضباً لعجزه عن الردّ على كلماتها الصادقة والثائرة على بغي وعدوان وجور، فأمسك إصبعَيْها بيده وضغط عليهما بقوة، ثم نظر إليها وقال:
-لن تستطيعي أن ترفعيهما بعد هذه المرة.
وكسر إصبعيها اللتين طالما رفعتهما في مظاهرات تطالب بحياة كريمة للأجيال القادمة، فصرخت متألمة:
-ياالله… عليك بالظالمين، فقد بغوا، (وغابت عن الوعي من شدة الألم).
في اليوم التالي أفاقت لتجد أصابعها مضمدة بقطع قماش مزقتها من ثوبها إحدى المعتقلات، أثارت دهشتها وجوهاً باكية مستبشرة في ذات الوقت!
جلست بصعوبة وسألت المعتقلات اللواتي تجمعن حولها:
-ما الأمر؟!!، ماذا حدث؟!!، مابكن يابناتي؟!.
قالت مها بعد أن مسحت دموعها:
-لقد تم التبادل على سناء بأحد الأسرى، وستخرج من هنا غداً.
رمت سناء نفسها في حضن الحاجة وقالت بكلماتها الغارقة بدموعها الماطرة:
-وأخيرا سأعود لأولادي ياخالة، سألتقي بهم بعد أن ظننت أني سأموت قبل أن أراهم.
بيدها الواهنتين ضمتها الحاجة لصدرها وقالت:
-الحمدلله يابنتي، ستهدأ نار قلبك بلقائك بهم، انتبهي لهم وربيهم على حب الوطن، وعلميهم أن التضحية في سبيله صغيرة مهما عظمت، قولي لهم أن ثمن الحرية غالٍ، ثم رفعت يدها بألم واضح وقالت:
-قولي لهم أنهم لن يستطيعوا كسرنا بكسر أصابعنا، وأننا سنعلن يوماً النصر عليهم بأصابعنا المكسورة!!
- اعجاب
- أصدقاء
القادم بوست
قد يعجبك ايضا