ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
مغصٌ شديدٌ أيقظ إلهام من نومها الذي هربت إليه من جحيم تفكيرها القاتل، فتحت عينيها فزعة، تساءلت في سرها:
-هل جاء وقت المخاض؟!!، ياإلهي كن معي.
راحت تتحسس بطنها بيدها المرتجفة خوفاً وتنقلها من مكانٍ لمكان وكأنها تخاطبه راجية:
-أرجوك يابطني لا تلفظ مازرعه بك هؤلاء الأوغاد، أرجوك لا تُخرج طفلاً زُرع بأحشائي رغماً عني.
أسندت رأسها على حائط الزنزانة وأخذت نفساً عميقاً، أغمضت عينيها وعادت بذاكرة القهر إلى أول ليلة لها في فرع الأمن، حيث هاجم عساكر النظام بيت أهلها بعد الساعة الواحدة ليلاً وأخذوها عنوةً دون أن يعيروا اهتماماً لتوسلات والديها العجوزين وأختيها الصغيرتين.
في سيارة سوداء أدخلوها بعد أن غطّوا عينيها بقطعة قماش، وساروا بها إلى مجهول، لم يُسمح لها أن تسأل عن سبب اقتيادها إليه!
على باب الفرع فكّوا عصاب عينيها، وراحت تنزل وتتخطى درجاً طويلاً وكأنه سيفضي بها إلى مخدع إبليس.
بعد ظلمةٍ أخذت بعض الوقت وصلت مع العساكر إلى مكتبٍ كبير، جلس فيه رجلٌ ضخم، طويل القامة، ذو شاربين مفتولين مرفوعين كذيل العقرب.
قال أحد العساكر بعد أن ضرب تحية: -احترامي سيدي، هذه الخائنة إلهام، وانصرفوا بعد أن أغلقوا الباب.
قام الرجل الضخم والذي تبين أنه ضابط من خلال الرتب المتربعة على كتفيه، وَقْعُ خطاه التي كانت تهز أركان إلهام خوفاً خطف لون وجهها الطفولي الجميل، وقف أمامها وراح يتأمل ذاك الجمال المشعّ كشمس الضحى.
إلهام ذات العشرين عاماً، بِكْرُ والديها وابنهما الذي لم يرزَقاه كما كانا يقولان عنها.
قال وقد صرخت عيناه بالغدر والبطش:
-(وحلوة كماني، يخرب بيتكن شو عليكن عيون)،هيا… اعترفي بعملك مع الإرهابيين الذين يخربون البلد ويحاولون زعزعة أمنه.
لم تنطق بكلمة واحدة، فمنظره المخيف شلّ لسانها، وكوحشٍ انقضّ عليها وراح ينزع عنها ثيابها.
عبثاً حاولت تقاوم جسارته وقوته الفائقة، حفرت على وجهه المنتفخ جروحاً عميقة بأظفارها، ركلته بما أوتيَت من قوة، حاولت جاهدةً إبعاده عنها لكنه كان أقوى، فاغتال عذرية الوردة المتفتحة آنفاً، ولطخ الطهر بنجاسة الظلم والطغيان.
ازدياد المغص… جعلها تنتفض وتتحرك فجأة لتعود من ذلك الوجع، عضت شفتها لتكظم ألمها وقالت بصمتها الموهن:
-هو المخاض…. قد آن آوانه.
ثم أغلقت فمها بيدها لتمنع خروج صرخاتها وتابعت:
(ياإلهي ماذا ينتظرني أكثر؟!، كيف سألد هنا؟… في هذه الزنزانة المزدحمة بالنساء؟!، وإذا خرجت من هذا الموت، ماذا سأقول لأهلي، دخلت إلى هنا بكراً وعدت لهم بطفل!!).
وصرخةٌ مدويةٌ جلجلت في الأركان خرجت رغماً عنها، أيقظت كل من معها من معتقلات القهر.
حالها الذي ماعاد يخفى على أحد أَعلمَ الجميع بأنها تصارع أوجاع المخاض.
خلعت أم سمير عباءتها وفتحتها، وطلبت من معتقلتين أن تمسكا كلٌّ بطرف لتصنع ساتراً تولّد خلفه إلهام.
أم سمير أكبر المعتقلات السبع عشر الموجودات في الزنزانة الصغيرة، تجمعت باقي المعتقلات في إحدى الزوايا لتوسّعن مكاناً للمخاض في هذا المكان الخانق.
بعد آلام شديدة وصرخات قضّت مضجع جميع من في المعتقل صدحت الصرخة الأولى للمولود الجديد.
وضعته أم سمير على صدر إلهام بعد أن أذَّنَتْ في أذنيه وقالت لها:
-ضمي مولودك يابنتي، هو لاذنب له، إنه ابن الغلبة، حماه الله وجعل على يديه نصر موسى على فرعون.
بعد خمسة أشهر من ولادة إلهام تم الإفراج عنها لثبوت براءتها من جرمها المزعوم بعد إجراء التحقيقات الكثيرة.
خرجت تحمل طفلها الذي ماهدأ تفكيرها منذ ولدته بمَ ستكون ردَّة فعل أهلها حين يرونه.
بعد ترددٍ طويل وخطى متقدمة تارة، ومتراجعةً تارةً أخرى طرقت باب بيت أهلها، فتح الأب… المفاجأة أخرسته، وراح ينقل عينيه من وجه ابنته الغائبة عنهم سنة وأربعة أشهر وبين الطفل الذي تحمله.
دخلت مسرعةً ونهرٌ من دموع جرى على وجهها الذي أرهقته بشاعة ماعاشته في فترة غيابها.
نظرات الأم والأخوات استغرابٌ وتساؤلات ودهشةٌ وصدمة، كلُّ هذا كان على إلهام مواجهته في هذه اللحظة، وهي المنهارة قهراً وظلماً.
-اخرجي من بيتنا، نحن ليس لدينا ابنة اسمها إلهام.
كان هذا أقسى ماسمعته في حياتها، تنكّر أبوها لها، ورفض عودتها بعد اعتقالها.
ركضت نحو أمها صارخة:
-أمي لا ذنب لي بما حدث، لم أخطئ ولكنهم جبّارون وأنت تعرفين ابنتك.
لم يعد باستطاعة الأم مقاومة شوقها لضم ابنتها بعد عودتها للحياة، بلهفةٍ ضمتها وابنها وأغرقتهما بدموعها، وأحاطتها أختيها بأذرعهنّ، فقد كانتا تنتظران غلبة الحب والرحمة على مفهوم ونظرات المجتمع القاسية لمن في وضعها.
جلس الأب على كرسيه أمام النافذة المطلة على الشارع الرئيسي، وراح يراقب مظاهرة سلمية جديدة خرجت معلنةً استمرار ثورة الحق ضد نظام غاشم عاث فساداً في ربوع الوطن المغتصب.
- اعجاب
- أصدقاء
القادم بوست
قد يعجبك ايضا