غربة جسد.

457

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
ها هي الصحفية التركية جاءت متلهفة للقاء المعتقلة الناجية من مقابر المعتقلات، لتسمع فظيع ما عشته في الأشهر التسعة التي دمّرت سوسن ابنة ريف حلب الثائرة على ظلمٍ واستبدادٍ جَثَمَ على الصدور طويلاً.
ارتشفت قهوتها ونظرت إليَّ وقد بدت عليها نظرات الشفقة لصغر سني، والحال الذي وصلت إليه بعد تجربة الموت في لجَّة الحياة!
سأسردُ لك ولهذا المترجم قصّتي وأنت تسمعين ترجمتها منه: رفضُ أهلي انخراطي بالحراك الثوري وضربُ أخي الكبير لي بعد كلِّ عمل يخدمُ ثورتنا لم يثنني عن عزمي بهز جدار القمع والكبت الذي خنَقنا لسنين عديدة.
في أحد الأيام كنت أنسِّق مع زميلٍ لي من أجل مظاهرة يوم الجمعة التي ستكون من أجل الشهداء الذين قتلهم رجال الأمن على حاجزٍ كان قبل مبنى الجامعة، ولترتيب أمور إيصال المواد الغذائية لبعض الثوار المرابطين على الجبهة الشمالية، حيث كان يحدث اشتباكات لصد مداهمات النظام عن بعض الأحياء، فجأةً علا صوت رصاصٍ في الجو، ووقْعُ أقدامٍ كثيرة، وكأنَّ جيشاً هجم على البيت، طُرِقَ الباب بعنفٍ طرقاً مرعباً وفتحوا الباب ثمَّ دخل الكثير من رجال الأمن، صاحت أمي بصوتٍ عالٍ، مرسلةً رسالة تنبيه لي:
الأمن! ماذا تريدون؟ لماذا كل هؤلاء العساكر، وكلَّ هذا السلاح!
أسرعْتُ بإغلاق جهاز الحاسوب (اللاب توب) واحترت أين أخفيه، تنقَّلت عيناي من مكانٍ لمكان في الغرفة لكن كل الأماكن قد يجدوه فيها، أسرعت للنافذة وأخرجت رأسي منها، أرعبتني كثرة العساكر المحيطة لبيتنا، تسمَّرت قدماي في الأرض، وبلحظةٍ قبل دخولهم عليَّ رميت به من النافذة دون تفكير أين سيستقر هذا الذي يحمل بملفاته مصيري ومصير الكثير من الأحرار.
أخذوني من بين أهلي دون أي مقاومة أو احتجاج، إذ من يجرؤ على التصدي لرجال كتيبة كاملة تحمل العتاد الكامل وكأنهم قادمون لاقتحام مدينة!
بلحظةٍ خاطفةٍ وجدت نفسي مع أربع فتياتٍ مقيّداتٍ معصوبات العينين قبل أن يعصبوا لي عينيَّ أيضاً.
تلك المصفحة الحديدية التي نقلونا فيها كانت تقطع أنفاسي وكأنني أجلس في تابوت.
دخلنا جميعاً لمبنىً كبير، أبعدوا العُصبةَ عن أعيننا، وراحوا يدفعوننا بقوةٍ داخل ممراتٍ طويلة وكأنها كهوف عتيقة!!، أدخلونا مكتباً فخماً، وقفنا وأيديهم تدفع برؤوسنا للأسفل،
احترامي سيادة العميد، هؤلاء المشاغبات الخمس، لقد ألقينا القبض عليهنّ. نهض رجلٌ نحيلٌ هزيلُ الجسدِ من خلف طاولة المكتب وخطا نحونا ببطء، وقف وبدأ يتفحصنا بهدوء تام ويرفع بيده رأس كل واحدةٍ منَّا ويحدّق بها بتأنٍّ، ثم قال بهدوء أكثر: أنزلهنّ للأسفل وقم بالواجب، وفي المساء آتني بهنّ كلهنّ.
قادنا إلى الطابق السفلي وزَجَّ بنا في زنزانةٍ لها بابان من حديد، علّقونا بسلاسل حديدية من أيدينا (تعذيب بالشبح)، وراحوا يضربوننا بأقدامهم وب (كبل رباعي)، وأنا أتلوّى بين تلقّي ضرباتهم وسماع صراخهنّ، صعقني أن إحداهن حاملاً، لقد رأيته يضربها بلا رحمةٍ على بطنها الذي راح ينتفض، وكأن الجنين فيه يقاوم قساوة هذا الألم أيضاً، بقينا على هذا الحال ساعاتٍ طويلة، وسياطهم مع الشتائم والسُّباب يأكل أرواحنا المتهالكة.
في المساء ولم نكن نعرف الوقت بالضبط أخذونا لمكتب العميد، وأنفاسنا تترنّح خائرةَ القوى، لا نحن أموات ولا أحياء، توسّطت المكتب طاولةٌ فُرِشَت عليها أنواع المكسرات والمقبّلات وزجاجات خمرٍ مختلفة، ومع العميدِ النحيل ثلاثةُ رجالٍ آخرين يبدو عليهم أنهم شربوا حتى الثّمالة، قال العميد بهدوئه المقيت:
أمسك لي هاتين، وأشار للمرأة الحامل ولمعتقلةٍ ثانية. أفظع ما رأيت في حياتي اغتصابُ الحامل الّتي قطّعت صرخاتها قلوبنا، واستغاثتها وكلماتها المكلومة: يا سيدي إنني أنزف، لقد ركلوني على بطني، أرجوك ارحمني إنّني حامل.
ذاك الهدوء المبطّن بحقدٍ دفين لم يكترث لضعفها الذي بات واضحاً باصفرار وجهها وبدمها النازف الذي نتج عنه الإجهاض، وأمام أعيننا سقط أصغر شهيدٍ في الثورة!!، وسقطت أمُّه شهيدةً على أرض المكتب غارقةً بدمائها التي أراقها وحشٌ إنسيٌّ استقوى عليها بسلطة البطش والتسلُّط.
كانت السّاعات التي تمضي في مكتب العميد مع ضيوفه الأوباش أصعب من كل ما نتعرّض له من تعذيبٍ في عتمة الزّنزانات، اغتصابات واعتداءات على كل فتاة تدخل ذلك المنفى، وكأنها عادات وتقاليد محرَّمٌ تجاوزها أو التغافل عنها.
بعد تسعةِ أشهرٍ من التعذيب المرير الذي جرَّدني من كلِّ أملٍ بالعودة للحياة كما كنت أُخليَ سبيلي في إحدى اتفاقيات تبادل الأسرى، فقد طالب بي الأحرار الذين كنت معهم خطوةً بخطوة.
وصلت لبيت أهلي ووصَبٌ وكآبةٌ يحطّان بي، كانت أمي بالبيت لوحدها، صرخت بي:
اخرجي من هنا قبل عودة أبيك وإخوتك من العمل، لقد أقسم أخوك على قتلك إذا خرجت من المعتقل، اهربي خارج البلاد، فبقاؤك هنا يعني العار، وإخوتك لن يسكتوا. أجهشتُ بالبكاء، وضمَّتني للحظةٍ وأنا جامدةٌ مما أسمع: هيا أسرعي اخرجي، لن أقول لهم أنك جئت إلى هنا، لا أريد أن يقتلك إخوتك كما قُتِلت ابنة المختار بعد اغتصابها في المعتقل.
وها أنا هنا في تركيّا يا سيدتي منفيّةٌ عن أهلي ووطني بعد إطلاق سراحي، ولكنَّ الحقيقةَ لم يطلق سراحي أبداً، ما زلت معتقلةً في زنزانة الخزي والعار، وما يؤلمني أكثر أنّ هذه المرّة سجّاني هم كلُّ أهلي!!!

قد يعجبك ايضا