أوجاع رحم… حكايا واقعية باتت تتكرر يومياً، ولا يخلو منزل من إحداها.

0 397

ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
أنهى أطفال الميتم تناول طعام العشاء، ودخل كل فوج إلى غرفة نومه مع المربية الموكلة بالاهتمام بهم، مبنى متواضع أُنْشِئَ في إحدى مخيمات النازحين السوريين يتألف من سبع غرف، خمسٌ منها خصصت للأطفال، وغرفة كبيرة صُمِّمت لتكون مطبخاً، والغرفة السابعة للإدارة حيث تجتمع المديرة والمربيات، كل مربية كانت تهتم بشؤون خمسة أطفال، ترعاهم وكأنهم أطفالها، لذا كان من شروط الدار لقبول المربيات أن تكون متفرغة تماماً للعمل ورعاية هؤلاء الأطفال.
أطفأت غدير الضوء بعد أن نام الأطفال قبل أن تنتهي من حكاية ماقبل النوم التي عودتهم على سردها لهم كل ليلة وحملت القرآن واتجهت لغرفة الإدارة.
هدوء الليل بسط سيطرته على الميتم فقد أغلقت الأبواب وأطفئت الأنوار إلا أنوار الممر بين الغرف، ونام الأطفال في أمان كلٌّ في فراشه بعد أن أخذ جرعة الحنان من الأم التي وهبه الله إياها بعد رحيل أمه أو موتها، فمنهم من ماتت أمه تحت نيران القصف، ومنهم من تركته عند جدته وتزوجت غير أبيه الشهيد، ومنهم من لا يعرف إذا كانت أمه على قيد الحياة أم أن يد الموت قد طالتها.
أشعلت غدير نور غرفة الإدارة، وجلست بالقرب من النافذة المطلة على أرض كبيرة شُيِّدَ فيها مبنى كبير سمعت أنه سيكون دار أيتام جديدة، ولكنه سيكون أكبر بحيث يستوعب أكبر عدد من الأطفال الأيتام المنكوبين، فأعدادهم تتزايد بشكل مخيف، ولأن هذه الحرب لا أحد يعرف متى ستضع أوزارها فلابد من بناء هذه المياتم والاعتناء بهذه الأجساد الصغيرة التي كانت مشيئة القدر أن تكون طفولتهم في ميدان الحرب.
شرعت في قراءة سورة الكهف، ككل ليلة جمعة، وحين وقعت عيناها على الآية الكريمة “المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملا” خنقتها العبرة، وسالت دموع الحسرة لتسقط على كفيها اللتين رفعتهما ونظرت للسماء تناجي ربَّها بما يكتظ به قلبها وخاطرها المكسور: “اللهم عوضني ما فقدت بهؤلاء الصغار واجعلهم لي قرة عين يارب”.
أنهت القراءة وجلست أمام الشباك، وقد بدا كل شيء واضحاً، كأن ضوء النهار تسلل وانتشر في الأرجاء فهي ليلة اكتمال البدر، عادت بذاكرتها إلى ليلة مشابهة لهذه الليلة، حين كانت في زيارة لأهلها مع زوجها وولديها شام وأسامة، فجأة تغيرت ملامح الوجوه وكساها الرعب والفزع، وبدون تردد أو تفكير همَّ الجميع بالنزول للقبو، فقد جاءت من تحمل الموت بين جنباتها “الطائرة المروحية”، نزل الجميع إلى القبو، إلّا غدير التي أخَّرها عنهم ثقل حملها، فقد كانت حاملاً في الشهر الثامن، نفَّذت الطائرة ورمت حمولتها اللعينة على البيت لتهدمه وتقتل كل من فيه حتى من اختبأ في القبو، لتحدث مجزرة تحصد أرواح الجميع.
أفاقت غدير لتجد نفسها في المشفى المركزي بعد أن أمضت ليلتها الأولى في المشفى الميداني وقد فقدت جنينها من أثر ذلك القصف الهمجي.
أمضت غدير سنة كاملة تتعالج من الصدمة، لقد فقدت أهلها وزوجها وولديها شام وأسامة وجنينها في وقت واحد، ولم ينته مصابها هنا، بل أفقدتها الشظايا التي مزقت جنينها رحمها الذي اسْتُؤْصِلَ بسبب نزيف قوي أحدثته تلك الشظايا.
في الغرفة المجاورة للإدارة كانت جيداء قد تمددت في فراشها بعد أن أغمض الأطفال العيون الصغيرة وناموا بالقرب منها، تاهت عيونها شاردةً فيما آل إليه حالها بعد أن هاجر زوجها وابنها عليٌّ ابن السادسة عشرة عامٍ إلى “اليونان”، وغرقت الباخرة بكل من فيها وانقطعت أخبارهما عنها، وهي الآن تنتظر أن تسمع خبراً يعيد إليها الأمل ببقائهما على قيد الحياة، أما المربية هدى التي أصرَّتْ على اختيار العناية بخمس بنات صغيرات، لم يرفض أحد طلبها هذا بعد أن علموا بقصة استشهاد طفلتيها التوأمين هبة وربى، حين وقع “صاروخ” على المدرسة وقتلهما مع الكثير من الأطفال آنذاك، ليزرع فقدهما في قلبها حزناً ينعكس على وجهها أبداً.
كانت فاطمة أكبر المربيات، فهي في عقدها الخامس، وقد بدا واضحاً على محيّاها جور السنين وعبث المنون فيما يقبع في النفس من مشاعر وأحاسيس، فأبناؤها الثلاثة وزوجها استشهدوا على إحدى الجبهات ولم تستطع أن تراهم أو تودعهم للمرة الأخيرة كانت الضربة القاسمة التي أماتت كل شيء في عينيها بعدهم، لذا نذرت نفسها وعمرها لتقضيه برعاية الأطفال الذين حرموا نعمة الأهل كما حرمت أولادها وزوجها ونعيم استقرارها معهم.
أما سُميَّة، فبرغم من أنها فقدت قدرتها على المشي بشكل طبيعي بعد أن استقرت رصاصة في قدمها وسببت لها عرجاً فيها، إلا أنَّ هذا لم يمنعها من القدرة على العناية بأطفالها الذين كانت تقول عنهم دائماً “إنهم أطفالي الذين لم ألدهم”، فكانت نبعاً من حنان ورأفة وعطف أمومة، جمعتها بالأطفال كل معاني الرحمة والرفق، فأحبتهم وأحبوها وتعلقوا بها وكأن حبلهم السري موصولٌ بروحها الحنونة، استشهاد خطيبها معاذ في الاشتباك الذي كان بين فرقتهم وبين حملة مداهمة دفعها للعمل في هذه الدار بعد أن قررت اتخاذ أصعب قرار في حياتها، وهو ألّا تلبس خاتم خطبة بعد خاتم حبيبها الشهيد.
قلوب بصفاء السماء وطهرها داستها حرب غاشمة جائرة تجردت من كل ما يحفظ للإنسان حقه بالعيش، بعيداً عن عنف الظلم وبطش من تخلى عن إنسانيته.
كما أرسل الله هؤلاء الأمهات لِيحْضنَّ يُتْمَ وغربة الأطفال قبل أن يتيهوا في غياهب الضياع، فأرسل هذه البراعم الجميلة لتلك القلوب الكسيرة، لتكون أملاً تحيا عليه في دنيا سلبت منها كل ألوان الحياة.

قد يعجبك ايضا