ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
زياراته القليلة لها بعد إصابتها كانت تشعرها بالإحراج أمام أهلها وأقاربها،
أما رفضه الدخول معها إلى تركيا للعلاج فهذا وجع آخر احتفظت به لنفسها، وخبأته جرحاً عميقاً في تلافيف الروح.
أمضت سنة ونصف في تركيا تتعالج من إصاباتها المتعددة التي حدثت بسبب الصاروخ الذي وقع على بيت أهل زوجها، وقتل عمها وزوجته وإخوة زوجها، وتسبب ببتر قدمها وحرق جلد ظهرها وشوَّهه.
كانت تتنقل بين المشفى وبيت أخيها الذي كان يعمل في تركيا في فترة علاجها التي قضتها على جمر القهر والخذلان من أحب البشر إلى قلبها.
بعد عودتها من تركيا وخضوعها للكثير من العمليات بقيت في بيت أهلها في المخيم.
زيّنت الغرفة المخصصة بها التي بناها لها أبوها وأخوها بجوار غرفتهم قبل عودتها.
كانت غرفة مسقوفة بألواح التوتياء، وقد فُرش سطحها بالبحص للتخفيف من صوت المطر عليها، علّقت صور عرسها على جدرانها، وشرائط ملونة بألوان قوس قزح، ووصلت أسلاكاً أشعلت بعض الأضواء الصغيرة منها، علقت ستائر جديدة بيضاء مزينة بورود حمراء.
تدلّت من السقف ثريّا صنعتها من صوف وقطع زجاجية صغيرة، نسجتها بيديها حين كانت ترتب الأحداث التي قذفت بها من حياة إلى حياة، ومن حال إلى حال.
على طاولة في وسط الغرفة، فرشت الهدايا التي قدمها لها في فترة الخطوبة، وضعت الساعة التي كانت تلبسها حين وقع الصاروخ، وتكسّر زجاجها وعقاربها.
كانت فرحة أهلها عظيمة لأجلها، فبرغم استيائهم من معاملته السيئة لها بعد ماحدث، إلا أنهم يعلمون حجم الحب الكبير له في قلبها.
فهي من رفض جميع الخاطبين من أجله، وقبلت أن تترك دراستها التي تحب لتتوج قصة حبهما بزواج ميمون.
بعد الترحيب به وتقديم الضيافة له طلبت عفراء من زوجها أن يناما في بيت أهلها هذه الليلة، وفي الصباح الباكر يسافرا للبلدة، فهي تخاف من سفر الليل، وطريق المخيمات لا يخلو من مخاطر اللصوص وقطاع الطرق،
وافق بعد إلحاح كبير منها، واستأذن أهلها لينام ويرتاح من تعب طريقه الطويل.
أمسكت بعكازيها وسبقته إلى الغرفة، تبعها وعيناه تلاحقان خطواتها والعكازين اللذين أخذا مكان القدم الثانية!
دخلت عفراء الغرفة، أشعلت النور، وتبعها ليتفاجأ بكل هذا الجمال، استقبلته رائحة العطر المفضل الذي عبق به جو الغرفة، جلس وأسند ظهره للحائط، ونظر إليها بعينين فرَّ الشوق منهما كطائر جارح مستشرس:
- لقد اشتقت إليك… قالها ولمعت عيناه.
حدقت به للحظات والبسمة الرائعة مرسومة على ثغرها الوردي، وعلى عينيها اللوزيتين، التفتت إلى صورهما المعلقة، وقالت: - أتذكر هذه الصور؟… إنها صور خطوبتنا وعرسنا… أترى كم كنا جميلين… انظر لعيوننا الممتلئة بالفرح والسعادة…
ثم أعادت نظرها إليه ومدت يديها، أمسكت بيده… وقادته إلى الطاولة، وقفا بقربها… تأمل محتوياتها، ارتسمت الأسئلة وإشارات التعجب في عينيه، قال: - ماهذا؟!!!
ضحكت ضحكة صغيرة، تنهدت وقالت: - هذه هداياك التي قدمتها لي في فترة خطوبتنا، وذلك حين كنت تقنعني بترك دراستي لنتزوج… أتذكر؟
حملت الساعة المحطمة، تأملتها وطفرت دمعات كاللآلئ من عينيها الحزينة، ثم قالت: - هذه ساعة الخطوبة، لقد انكسر ما بيننا كما انكسرت، لقد كنت أحادثها طويلاً وأسألها عنك، قبل أن أدخل غرفة العمليات، وحين أصحو من التخدير، كنت أحكي لها عنك في ليالي الوجع، وأنا في بطن غربتي وحيدة متألمة، لكنها لم تجبني ولا مرة حين كنت أسألها عن وعودك وعهودك لي بالوفاء لحبنا الذي فجر تحقيقه ذلك الصاروخ!
فتحت أزرار قميصها ورفعته عن الجزء الذي احترق من ظهرها، نظر بتمعن، لم يرَ تلك الندوب والجلد المتراكم فوق بعضه. - أين الحروق؟… لقد شفيتِ؟!!.
أقفلت الأزرار، اقتربت منه وهمست في أذنه: - نعم شفيت، أتذكر حين قلت لي أنني لن أشفى؟، وأن جسدي تشوّه؟، وأني فقدت أنوثتي وجمالي؟
ابتلع ريقه بصعوبة، وتغير لون وجهه الذي كساه الخزي.
تابعت بعد أن لاحت أوجاعها على وجهها الجميل:
-نعم يا زوجي العزيز لقد كنتَ وفياً أكثر مما يجب، وأود أن أخبرك بأني سأتابع دراستي، فقد سجلت في الجامعة، ولن أذهب معك.
لقد انتهت علاقتنا منذ أن بترت قدمي، واحترق كل ماكان بيننا باحتراق ظهري، والآن اخرج من غرفتي التي سأعيش بها حياتي الجديدة بكل جديد طرأ عليّ، لن أعود لعالمٍ مبطنٍ بأكاذيب كشفتها منذ إصابتي.
لكن قبل أن تخرج أخرِج من فمك ثلاث جوهرات سأبدأ بهنّ عمري الجديد الذي سيزهر أملاً ومستقبلاً مشرقاً جميلاً.