ريمة خطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق.
كان عزيز يشرب القهوة في( كافتيريا ) الكلية، حين لمح رجلا كان قد رآه في أكثر من مكان، وكأنه يراقبه!!.
مما أدخل الشك في نفسه، فقرر أن يتحقق من الأمر.
حمل جواله، وحث الخطى نحو حديقة الكلية، فجأة انحنى على حذائه وراح يفتعل ربط ربطاته، واسترق النظر من بين قدميه، فرأى نفس الرجل الذي ارتاب لأمره،
أسرع وعاد لغرفته في السكن الجامعي، وقد بدأت الأفكار تلعب برأسه المزدحم، أصلا، بأحداث البلد التي شغلته منذ أول جمعة صرخ الشعب فيها( حرية ).
جلس على كرسي مكتبه، حدق بالكتب المتناثرة عليه، ثم نظر ليده اليمنى، رفع عنها كم القميص، وراح يتأمل النُّدبة التي تركتها شراسة التعذيب في المعتقل، حيث اختفى بظلامه منذ أربعة أشهر، وغاب في أوكاره التي طغت عليها قوة التسلط بأبشع أنواعه.
نظر للشمس المبتسمة على زجاج النافدة، وأغمض عينيه وعاد إلى حيث كانت أشعة الشمس حلما آنذاك، حيث لم يرها طيلة فترة اعتقاله، لمدة شهرين، تذكر كيف كان ينام المعتقلون متراصِّين، الواحد ملتصق بالآخر، لضيق المكان وكثرة الموقوفين،
أما الطعام الذي كانت تأنف أن تأكله الحيوانات، فكان تعذيبًا من نوع آخر.
الأمراض التي انتشرت بين المعتقلين، لعدم وجود النظافة، كانت تنتقل بسرعة من شخص لآخر، وتجنبا من العدوى بها، لم يكن الضباط والقائمون على المعتقل، يقدمون على النزول لتلك الزنزانات التي فاحت منها روائح الإسهال، والقروح، وانتشر الجرب بين سجنائها.
لذلك كانوا يأمرون السجناء بتعذيب بعضهم البعض، فالسجين القديم يقوم على ضرب الوافد حديثا لمشرحة الموت هذه.
وقف مسرعا والغضب يطلق شرارته كرصاص ثائر من عينيه، قال بصوت يرفض الموت مرة ثانية في سعير المعتقلات:
- من المؤكد أنهم يراقبونني منذ أن أطلقوا سراحي، ليصلوا إلى رفاقي، ويعرفوا مخططاتنا، بعد أن فشلوا بإجباري على الاعتراف بتنظيم المظاهرات التي تطالب بإسقاط رؤوس الظلم والقمع، والتي هزت أركانهم، ثم نظر للوحة المسجد القديم التي علقت على الجدار، ابتسم ابتسامة ساخرة، فقد تذكر حين ذهب مع رفاقه المتظاهرين، بعد أن اتفقوا أن تنطلق المظاهرة هذه الجمعة، من المسجد الكبير للمدينة بعد أن يؤدوا صلاة الجمعة،
دخل عزيز وأحد رفاقه من باب المسجد الكبير، ودخل رفيقاه الآخران من الباب الجانبي القريب من المكان المخصص للوضوء.
وقف عزيز ورفاقه للصلاة، وقبل تكبيرة الإحرام، نهض رجلان كانا راكعين، وهجما على عزيز، لكنه لاذ بالفرار منهما، وركض رفاقه خلفه فارين من رجال النظام المتنكرين بالأثواب العربية( كلابيات).
وكطريدة، ركضوا أمام عساكر النظام، الذين انتشروا داخل المسجد وخارجه، مما مَكَّنهم من الإمساك بعزيز ومن معه، وزجوهم بالسجن حيث الموت يشتهى من فظاعة ما كانوا يلاقونه من إذلال واحتقار وتعسف.
رنة جواله أعادته من رحلة القهر تلك، فتح الجوال، إنها رسالة من أحد رفاقه يذكره بموعد اجتماع الليلة لترتيب المظاهرات ليوم الجمعة القادمة،
صمت قليلا وقال في سره:
( قد لا أستطيع أن أكون معكم هذا الاجتماع )، ثم كتب ردا لرسالة رفيقه، بلغة خاصة، حتى لا يتمكن فهمها من يراقب تواصله مع رفاقه: - إخوتي الكرام، سلام الله عليكم،
سأحاول أن أكون معكم اليوم، لكن إذا لم أحضر فاعلموا أنني قد وقعت بأحد الأفخاخ المنتشرة في كل مكان،
وصيتي لكم، احموا شجرتنا، من الغربان المستوحشة، وحافظوا على جذورها، لأنه سيأتي يوم وتفرِّع أغصانا قوية لاتكسرها ريح ذل، ولا عواصف طغيان.