ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
عشرُ أشهرٍ رافقتني تلك السلاسل الحديدية، اِلتفَّتْ حولي معصميّ الصغيرين، حفرت بلحمي الطري أخاديد من وحشية، فسال دمي الطاهر على مذبح الأبوة القاسي.
كانت ثقيلةٌ تلك الجنازير، يتعبني حديديها الصدئ كصدأ إنسانية كل من كان يراني أصفّد فيها وكأنني شيطان رجيم، ولا يحاول إنقاذي من وحشية أبي.
أنا نهلة عثمان ابنة الخمسة أعوام، أبي طلَّق أمي وتزوج بامرأةٍ غيرها، وصنع لي قفصاً من حديد ليسجن براءة طفولتي ويذبح حرية اللعب في طفولتي الحزينة.
كان الجوع يفترسني كوحشٍ كاسر متغطرس، فالطعام القليل الذي كان يضعه لي أبي في بيتي المخيف (القفص) لم يكن يسد جوع معدتي الصغيرة، أما الماء الذي كانت تجف عروقي وتذبل لقلّته كبرعم وردة بالكاد تفتّح وخانته رياح السّموم، فقد كان يجيء بعد عطشٍ طويل ليروي ظمئي القاتل.
كنت أمشي مكبّلةً بجنازير الحقد والظلم من بيت أبي إلى بيتي الحديدي، وجميع سكان المخيم يرونني بثيابي الرثة المتسخة بعار أبي الذي تجرد من معاني الإنسانية،
ولم يجرؤ أحد منهم على إنقاذ طفولتي المقتولة بدم بارد.
لم يحاول أحد منهم ردع أبي عن فعله المُشين، لم ينطق شخص ببنت شفة أمام جبروت أبي الذي كبر وعظم بصمتِ كل من كان يشاهدني أُساق كل يوم لمذبحي.
كنت أراقب من بين قضبان سجني أطفال المخيم الذين يلعبون ويمرحون بين الخيام، يركضون بخفة ورشاقة، وضحكاتهم تملأ الأرجاء كتغريد طيورٍ من بساتين في جنة، كفراشاتٍ ملونة جميلة خرجت توّاً من شرنقاتها الحنونة.
طالما تمنيت لو أستطيع التحليق بينهم والتمتع مثلهم بطفولتي، لكنّ أجنحتي المكسورة أقعدتني عن اللحاق بأقراني ومنعتني اللعب معهم!!
كل شخص رآني أقتل كل يوم ولم يحاول إنقاذي هو شريك في الجريمة، كنت أسأل نفسي وأنا أمسح دموع وجعي وحزني:
_لماذا يفعل أبي هذا بي؟!، لماذا يقتلني كل لحظة بهذه الوحشية؟!، ماذا فعلت طفولتي الجميلة ليصب جام بغضه ومقته عليها؟!!
بعد أشهر من التعذيب والجوع والإهمال لجسدي الصغير، لم أستطع المقاومة أكثر، فقد فتكت بي الأمراض التي نجمت عن قلة الطعام والشراب وعدم النظافة وفاضت روحي للسماء، عرجت بأوجاعها المبرحة لخالقها، انسلّت من بين قضبان قفصي الذي عانيت به أعتى الأهوال، لتنتهي مأساتي في قفص أبي!!
أوصيكم بأطفالكم خيراً، وأتمنى أن لا تتركوا الطفولة فريسة بين فكّي الجهل والتخلف والإجرام، لا تصمتوا إذا رأيتم ظالماً أو قاتلاً، لا تكونوا شركاء في جرائم قتلنا، فكم من طفلٍ بينكم يُغتال كل يوم وصمتكم شاهد على الجريمة ومشاركٌ بها!!
كم نهلة تُحبس أمام أعين المجرمين!!
كم وردة تداس بأقدام البغي والعهر ولا حسيب ولا رقيب!!
- اعجاب
- أصدقاء
السابق بوست
القادم بوست
قد يعجبك ايضا