ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
مياه المطر التي تسربت من النافذة المشقوقة لم تستطع أن تمنعها من الجلوس أمامها، ومراقبة ما يحدث في الشارع الذي يطل على الساحة الصغيرة خلف البيت، حبال المطر المتواصل منذ ليلة الأمس، غسلت “إسفلت” الشارع وأوراق الأشجار من غبار الصيف.
أما الأرواح المتعبة المثقلة بأوجاع الفراق ولهيب الشوق فقد أيقظت أنغام حبات المطر حنيناً فرض سطوة الحزن عليها.
لمتابعة الأخبار العاجلة تيليغرام فيسبوك وتس آب
نسمات باردة هبت من ثقوب الشباك المهترئة، لفحت وجهها الشاحب الذي فقد نضارته منذ أسبوع، حين ودعت بسمة عمرها وأمل قلبها في النجاة من قاع الحرمان وغياهب سجن أضاعت فيه زهور ربيعها المبكر.
رنيم ابنة العشرين عاماً، صاحبة الصوت الذي يحمل بين حباله نغماً سحرياً، كصوت ناي يعزف جروح الوداع في وديان الرحيل، ولحناً يطرب الآذان ويوقظ كل حزنٍ دفين.
عيناها الشهلاوتان غارتا في حفر من هزال في وجهها المدور كقرص شمس الخريف، شاخت الأفراح في تجاعيده المرسومة حديثاً على رقعة الوجه الأبيض، مورَّد الخدين سابقاً، حركت عجلات الكرسي المتحرك واقتربت من طاولة كانت قرب خزانتها الصغيرة، أمسكت قلماً وفتحت دفتراً زهري الأوراق، رسمت في زواياه قلوباً صغيرة، مدت يدها وفتحت درفة الخزانة، تأملت الصورة المعلقة عليها وعيناه المفتوحتان بشدة وشارباه المتربعان في وسط وجهه الذي يوحي بسلطان شخصية قوية، حركت آلاماً حاولت جاهدةً الهرب منها، لكن دون جدوى، قالت بصوتها الحزين:
- أين وعودك؟!!
أين السعادة التي وعدتني بها؟
ذلك العالم الخيالي الذي نسجته لي من خيوط الفرح الذهبية، هل قطعته يد القدر؟!!
أم أنَّ عاصفة صحوة عصفت برأسك، لتقول لك: - توقف هنا، كف عن نزوتك أيها الغافل.
أتقبل بتلك التي أكلت نيران القذائف من أقدامها؟!!
توقف عن التوهم، هي لا تليق بمكانتك المرموقة بين الناس، ووعودك بالوفاء طوال العمر، ليست ديناً عليك…
أما عهدك لها أمام الله بعدم التخلي عنها ومحاربة الجميع وكل الظروف للظفر بها وانتشالها من جحيم بؤسها إلى ربوع حبك وهيامك السرمدي فهو ذنب صغير سيغفره الله لك، أليس الله غفار الذنوب؟
سنونك الأربعون التائهة في متاهات الحرمان والضياع، هل وجدتها مع امرأة غيري؟
سعادتك التي أزهرت على ضفاف بسمتي، هل أزهرت عند غيري؟
آه… آه… لماذا جئت لدنياي النائمة؟، لماذا أيقظت الأنثى من سباتها الأزلي؟، لماذا لم تتركني في أزقة النسيان أدفن أيامي بقلب بارد؟
لماذا زرعت في روحي بذورا لن تنمو؟
بدون سحابك السخي بحنانك وطيبة قلبك المصطنعين؟!!
بيديها المرتجفة كتبت على وجه ورقة: - حبيبي الوحيد، وعشقي الذي مات في رحم الغبن والظلم، أعترف لك أني لن أستطيع نسيانك ولن تموت في دنياي، رغم ابتعادك وغدرك وبرغم كل تلك الخناجر التي زرعتها في قلبي الذي أحييته وأشعلت فيه روح الحياة بعد أن كان عمله ضخ الدماء، أتذكر كم كنت أقول لك أني تعلقت بك، وأني لا أتخيل حياتي دونك؟، وأن لا معنى لعمري إذا لم تكن فيه، تضيئه بحبك وتشعل في ظلماته شموع الأمل.
نعم…أنا ميتة منذ ذاك اليوم، يوم رحيل سفنك من بحار أيامي، وها هو فصل الشتاء يعود محملاً بذكرياتنا التي تقتلني بدم بارد،
وتجتاحني كزوبعة تبلع روحاً مزقتها سهام الخبث والإجرام، من شخص لم أُؤذِهِ، لكنه آذاني حتى الموت.
حبيبي… نعم أقول حبيبي، وأنا لم أقلها لغيرك وأنت تعلم صدق قولي…
حبيبي سامحني لأني لن أستطيع تحمل تصاريف الحياة وأنفاس روحك بعيدة عني.
حين ستصلك رسالتي هذه، سأكون قد غادرت حياة لم تعد تشبه الحياة بشيء، بعد هجرانك لحدائقي الذابلة حتى الفناء.
طوت الورقة، وكتبت على الوجه الثاني:
تسلم إلى ………………
أخرجت قنينة صغيرة من إحدى الأدراج، فتحتها وشربت السمّ ووضعت رأسها على الطاولة، مواجهة لصورته، ليكون آخر ما تراه عيناها المغدورتان اللتان انطفأت فيهما الحياة بعد أن سلبت من حناياها سر الوجود!!