طفل في المعتقل…
ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
ارتديت ملابسي وأخذت هاتفي المحمول، وأخذت من أخي أجرة الطريق وثمن سندويشة آكلها في الاستراحة إذا شعرت بالجوع.
ودعت أخي، ومضيت قاصداً أهلي في “حمص” أقضي معهم يومي العطلة الأسبوعية الخميس والجمعة.
على غير العادة، استوقفني الحاجز المتمركز في أول الطريق العام بين القرية وحمص، بعد أن أمعن العسكري في بطاقتي الشخصية، قطب حاجِبيه وصرخ بمن حوله، وعيناه لم تبرحا النظر بعيني قائلاً: “خذوه إلى السيارة”، ركض نحوي العساكر، ووضع أحدهم “الكلبشة” بيدي، وقادوني إلى السيارة، حملوني وقذفوني داخلها، وبدأت اللكمات والركلات تتهافت عليّ من كل حدب وصوب، مصحوبة بالشتائم والكلام الخادش للحياء والمنافي للحشمة.
وصلنا إلى الفرع، وهنا عصبوا عيني بقطعة قماش، وقادوني إلى الداخل، فجأةً وبركلة على ظهري غير متوقعةٍ سقطت من أعلى درج طويل، تدحرجت ككرة ثقيلة، فصرخت متألما، توقف تدحرجي على أرض قبوٍ ثم صاح من دفعني: “خود هالعرصا”، فكَّ قطعة القماش المعصوبة على عينيّ، لقد كانوا ثلاثة عساكر ضخام الجثث برؤوس كبيرة وعضلات مفتولة، مجرد رؤيتهم يدخل الرعب للقلب، صاحب العينين الزرقاوين كان اللؤم واضحاً فيهما، كان يضربني بيديه الكبيرتين ولا أكاد أفيق من لطمة على وجهي حتى تأتيني أخرى، وبعد قرابة الساعة زجّوني في غرفة صغيرة جداً “مترين × متر”، كانت مليئة بالمعتقلين، وكل واحد منهم يجب أن يجلس على بلاطة، كنا محشوّين بها حشواً، ولأني منهك من شدة الضرب الذي نلته في السيارة، اتخذت موقعي على بلاطتي بصعوبة بين من سبقني، وأخذني النوم لدقائق قليلة، فأيقظني منها صوت عريضٌ قويٌّ يقول:
– يوجد شخص جديد يا أبو علوش، وعرفت أني المقصود، فلم يدخل بعدي أحد في هذه الغرفة الضيقة!
أبو علوش طويل القامة نحيل، سحنته سمراء، وعروقه البارزة تكاد تنفجر من تحت جلده،
صرخ أبو علوش:
– من الجديد؟
لم أتجرأ على النطق، فقال أحد من الموجودين:
– هذا، وأشار عليّ، فاقترب مني وركلني على رأسي وصرخ زاجراً:
– لماذا لم تجب حين سألت؟
سحبني إلى خارج الغرفة، وضربني سوطين، فشعرت بدوارٍ وسقطت على الأرض، وهنا لم أعد أشعر بشيء، عرفت أنني سأغيب عن الوعي، وبعدها لم أعد أتألم من ضربه الذي استمر برغم إغمائي.
بعد منتصف الليل، جاء من يأخذني إلى أبو حسن، المساعد أول الذي كانت مهمته أن يكمل على المعتقل بحفلة ضرب بحذائه “البوط العسكري”، كان يقول لي مستهزئاً:
– كيف تريد أن تنام وتتركني أسهر لوحدي؟
ويزأر بصوته الخشن، ويقول:
– اعترف، وإلا قتلتك خنقا بـ “بوطي”.
ومن شدة الخوف والألم أجبته مستفسراً:
– بماذا أعترف؟!، قل لي بماذا أعترف، لأعترف!!
_ من كان يعطيكم المال لتخرجوا في مظاهرات ضد النظام؟، وكم يعطونكم لتخونوا الوطن أيها الأنذال؟
برغم ألمي من ضربه القاسي، إلا أنني لم أستطيع تقبل كلمة “خيانة الوطن”،
لكنه كان يصر على أنني خائن ويجب أن أعترف.
فوضع رأسي على الأرض، وراح يدوسه ويضغط على عنقي محاولا خنقي، وبعد أن كدت أهلك صرخت:
– نعم كانوا يعطونني ألف ليرة على كل مظاهرة كنت أخرج فيها.
هنا رفع قدمه، وابتعد قليلا وصاح:
– خذوه إلى الزنزانة.
كانت الشتائم على ألسنتهم لا تبرحها، ضرب وإهانة، وكلام يذبح الروح، تشعر أمامه أنك عاجز، وتتمنى لو أن الأرض تُشَقّ وتبتلعك.
كان يوما عصيباً لن أنساه ما حييت، أما صوت المرأة التي كانت تترجى عسكرياً ليتوقف عن ضربها بـ “الكرباج”:
– “دخيلك يا سيدي أنا حامل لا تضربني”، فقد نقش على جدران ذاكرتي لن تمحوه السنون مهما طالت.
في غرفة أوسع من الغرفة الأولى أدخلوني صباح اليوم الثاني، كانت أربعة أمتار بخمسة، وكان معي ستة عشر معتقلاً، وهنا رميت بجسدي المنهك على الأرض، فتوقف التعذيب بالضرب، وبدأت فنون جديدة له، كانوا يعذبون من سبقنا من المعتقلين والذين يسمونهم بـ “الإرهابين” بأن يجعلونهم يشربون الكثير من الماء، ولا يسمحون لهم بالتبول باستخدام أداة خاصة بذلك، فكان صراخهم صخب وضجيج يشق صمت المهاجع.
رحت أراقب الوجوه المهمومة، والتي وضعت أيادي كل من في الفرع بصمتها عليها، الصمت مخيم على المكان إلا من تأوهات المعذَّبين.
فتح الباب، وأدخل طعام الفطور الذي كان بضع حبات زيتون، وحبات بطاطا مسلوقة وخبز، كان الطعام قليلاً لا يكفي، وهذا ليدفعوا بنا إلى الخوض في صراع البقاء، وكان فينا من يتصرف كوحش كاسر يريد أن يأكل غير آبهٍ للباقين، كنت لأول مرة أعيش هذا المشهد، وهذا ما كان يبقيني جائعاً دائماً، ولا أنسى أنَّ أول يومٍ لم يتسنى لي أن آكل لقمة واحدة، فنظر إليَّ أحد المعتقلين وكانت بقايا البطاطا حول فمه لشدة سرعته في الأكل وقال:
– لماذا لم تأكل شيئا؟!!
لم أدري ماذا أقول له، لكنَّه أعطاني نصف حبة بطاطا، شفقة عليّ، أكلتها وأسكتّ جوعاً كان يغرس أنيابه في أحشائي.
في اليوم الثالث كان الطعام “برغل وحمّص” كان الطعام نيئاً، قليل الاستواء، ولشدة جوعي كنت آكل بسرعة، وأبلع الطعام دون مضغ، كما كان يفعل الجميع، بعد الانتهاء من الطعام بساعة، بدأ الصراخ يعلو في الغرفة، وكل واحد منا وضع يده على بطنه الذي تحجر متألماً، وذلك بسبب عدم نضج الطعام.
أما جزء التعذيب التالي، فكان من نوع آخر، إذ أنهم كانوا يعدون للرقم عشرة لكل شخص دخل دورة المياه،
ومن كان يسمع رقم أحد عشر، ولا يكون قد انتهى، يضرب بـ “الكرباج” على ظهره.
جو الرعب الطاغي على الزنزانة يجعل من رعشة رهيبة تستوطن جسدك، أما ذاك الرجل المعتقل الذي لا يسأم من تكرار كلماته المعتادة، في كل مرة كانوا يأخذون أحد المساجين كان يزيدنا رعباً،
“الله يرحمه أكيد قتلوه”، وما يجعلنا نصدق كلماته تلك ونهابها، هو أن كل من كان يخرج لا يعود ليخبرنا ماحلَّ به.
شبح الموت خيَّم على غرفة الرعب تلك، فلا ترى غير الشرود، وعيونٍ غارت بفعل سوء التغذية، وفظاعة التعذيب.
كلٌّ سرحَ في ذهول واستسلام للأفكار التي راحت تتناقل من الأفواه، فهذا يقول:
– أكيد حين يسقط النظام سيأتون بالأسلحة ويقتلوننا،
وآخر يقول:
– لابد أنهم سيأخذوننا لسجن “تدمر” ويحكموننا بالإعدام.
هذه نهايتنا جميعاً “نيال الي ودع أهله”.
في يومٍ لا أعرف إن كان الوقت ليلا أم نهاراً، فُتِحَ الباب ورُمِيَ بجثة رجل بالثلاثينيات من عمره، وقالوا:
– “هذا جزاء من يخرج على الرئيس ويخون الوطن “الموت”.
صُعِقَ الجميع من منظره الذي شُوِّهَ من شدة الضرب، الجروح والشقوق ملأت وجهه، ويكاد ينفجر من شدة التورم، شهق الجميع وعلت أصوات بكاء البعض، والتحوقل وذكر الله للبعض الآخر.
كنت أصغر المعتقلين آنذاك، كنت في السادسة عشر من العمر، كنت أموت في كل لحظة، وأتذكر أهلي وأحبابي، وأسأل نفسي: هل سأراهم؟، أم أني سأنتهي مثل صاحب هذه الجثة؟، مضت ساعات تلك الليلة الموحشة بطيئة كسلحفاة عرجاء على الجميع، إذ من الصعب أن تستطيع الرقاد ومعك ميت في نفس المكان.
في اليوم التالي أخذوا الجثة، وبقينا مدهوشين كمن وقف الطير على رأسه.
كل يوم كان يخرج واحد من الغرفة ولا يعود، وجاء دوري في يوم من الأيام، ولا أعلم إلى أين اقتادوني، كل التكهنات والتوقعات التي كانت تتداول في غرفة السجن، جاءت وحطت في مخيلتي، فراح جسدي يرتجف كورقة شجر خفيفة في مهب الريح، دخلت غرفةً كبيرة فيها رجل هادئ الملامح، اقترب مني، وراح يعطيني محاضرة بالوطنية والقومية:
– يا ابني يبدو أنك شاب خلوق لست كهؤلاء الفاسدين، والوطنية بادية على وجهك، فلماذا تساعد الخونة بتخريب البلاد والإساءة لسيادة الرئيس؟!.
فقلت بصوت مرتجف، وقد أراحني عدم صراخه وضربه لي:
– يا سيدي أنا لست خائناً،
_ نعم… نعم أعلم، ولذلك ستخرج لتعيش حياتك بشكل طبيعي، أنت شاب والحياة أمامك، وأكيد أن لك حبيبة تنتظرك في الخارج…
وصاح لشخص خارج الغرفة:
– سيمو… خذه وأعطه سيجارة.
خرجت، ولم أصدق عيني حين أعطوني هويتي وهاتفي المحمول، وأطلقوا سراحي مع سيجارة من سيمو.
لأول مرة بعد أيام عديدة رأيت الشمس والسماء، واستنشقت الحرية.
حاولت أن أستقل سيارة لأصل لبيت أهلي، لكن عبثاً أحاول، لم يتجرأ أحد أن يذهب لحينا الذي كانت فيه الأمور خطرة بسبب خروج المظاهرات منه، ومما كان ينفِّر السائقين مني تلك الدماء اليابسة على ثيابي، وسرت مضطراً تعباً إلى أن وجدت حافلة أقلتني لأول الحي، وصلت بيتنا، ويا لهول مصابي، لم أجد أهلي هناك، سألت أحد المتبقين في الحي عنهم فقال:
– نزحوا مع من نزح من الحي بعد أن بدأت حملات المداهمة تتوالى على أهالي المنطقة.
وقفت أتأمل البيوت التي كادت أن تخلو من ساكنيها كلياً، وتهت في حيرة،
يا هل ترى أي جرم اقترفناه لنعاني كل هذا في حضن الوطن؟!.