دقَّ هذا الحديث مسامير من أسى في روح غزالة، بشأن مرض تلك الفتاة، فقد تذكرت كيف كانت أمها تقول عنها، بعد حدوث أي مشاجرة بريئة بين الإخوة، دعوها وشأنها، إنها مجنونة (في عقلها نقص)، كل عاجز مجنون….
ريمة الخطاب| شبكة مراسلي ريف دمشق
سنعرف اليوم تفاصيل أكثر عن معاناة غزالة في هذا الحزء….
قصدت بيت أخيها جابر الملاصق لبيتهم، لتقتل الملل الذي راح يخنقها، دخلت الغرفة الكبيرة، التي خصصتها زوجة جابر للعمل بصناعة القش، فهي لم تترك هذه المهنة بعد النزوح، ومازالت تعمل بها لتعين جابر على تكاليف الحياة الصعبة في المخيمات، وخصوصاً أن أعباءهم كبرت مع أبنائهم الذين كبروا وأصبحوا في سن الزواج.
جلست على كرسي في زاوية لم تتكوم فيها عيدان القصب، والمصنوعات، كما في باقي الزوايا، وراحت تراقب زوجة أخيها وهي تعمل، وتجادل النساء في أسعار ما صنعت لهنّ من أطباق.
كان الجو حاراً، والجميع يتصبب عرقاً برغم وجود مروحة تقوم على تحريك الهواء، لكنها لن تستطيع التقليل من حرارة الشمس المخترقة للعوازل القماشية لسقف الغرفة الكبيرة.
قالت إحدى النساء لزوجة جابر، وهي واقفة تهمّ بالانصراف:
أرجوك، إنني على عجلة من أمري، لقد تركت ابنتي في الخيمة لوحدها، وأنت تعلمين وضعها الصحي، عليّ أن أذهب، وسأعود غداً لنتحاسب. وخرجت من الغرفة مهرولة، وعيون النساء تتبعنها، ويراقبن خطواتها، قالت إحداهن، ويبدو من طريقة كلامها أنها تعرفها جيداً: كيف تترك ابنتها في الخيمة لوحدها، وهي مجنونة؟! ألا تخاف أن تخرج وتضيع بين الخيام؟!
تقول زوجة جابر مدافعة عن المرأة:
لا تتكلمي عن الفتاة هكذا، هي ليست مجنونة إنها متعبة نفسياً بعد أن رأت أباها وإخوتها أشلاء. دقَّ هذا الحديث مسامير من أسى في روح غزالة، بشأن مرض تلك الفتاة، فقد تذكرت كيف كانت أمها تقول عنها، بعد حدوث أي مشاجرة بريئة بين الإخوة، دعوها وشأنها، إنها مجنونة (في عقلها نقص)، كل عاجز مجنون، لا تردوا عليها، هذه التهمة اللعينة، التي كانت تُتهم بها في كل خصام صغير كان يحدث، كانت تميت غزالة حنقاً، واستحقاراً. إذ كيف لأم أن تقول عن ابنتها فلذة كبدها مثل هذا الكلام، وتصفها بهذا الوصف الشنيع، وغير الصحيح! في عينيها الذابلتين ترقرقت عبرات لم تقوَ على منعها، فقامت وخرجت من الغرفة قبل أن يلحظ أحد ما حلّ بها فجأة. قوة الرياح المتلاعبة بعوازل الخيام، وأسقفة البيوت المبنية على أمل العودة للبلاد، الهشة كهشاشة عظام عجوز وصل أرذل العمر، كانت تحدث ضوضاء مزعجة تقض المضاجع. دخلت غزالة غرفة المحامل التي باتت غرفتها حديثاً، وعالمها المصغر بما تحويه من جماد، أصبحت تستأنسه، وتركن إليه بأحاديثها المشنوقة بحبال الصمت. تمددت على الإسفنجة المتصدرة في الغرفة المكتظة بمحتوياتها، حدقت بخزانتها قليلاً، ثم بالمحامل، واحداً تلو الآخر، صوت الجوال نبهها برسالة قادمة، فتحت الجوال، فكاد أن يقفز قلبها من مكانه، إنها أغنية رومانسية من الأستاذ جاسم، سمعتها بآذان قلبها، سافرت مع أنغامها، دندنت معها بروحها، بكلماتها العذبة، وحين انتهت الأغنية، قالت في نفسها: لكن لماذا أشعر أنني أنجذب لهذا الإنسان بهذه السرعة؟!، لماذا أطير فرحاً، كلما جاءتني منه رسالة!
لقد تغيرت أشياء كثيرة في حياة غزالة منذ أن اعترف لها الأستاذ جاسم بحبه، باتت الحياة أجمل، برغم أنه لم يتحرك ساكن فيها إلا ذلك الصغير المسجون في قفص صدرها!
لكن السماء أصحبت أجمل، والورود لها رائحة زكية، وللأشياء الصامتة أرواح ناطقة، وللتفاصيل الصغيرة معانٍ عميقة، أصبحت لروحها أجنحة تحلق بها مع الطيور كل يوم، وتسربت السعادة لقلبها الذي لم يذق طعمها يوماً.
باتت تنتظر الصباحات، كي تسمع فيروز وهي تراقب شروق الشمس، وتراقب آخر ظهور الأستاذ جاسم من خلال رقمه على جوالها، وبرغم أنها تستمتع بسماع الأغاني التي كان يرسلها لها، إلا أنها لم تكن تبادله تلك الأغاني، فهي مازالت تترنح بين الخجل والخوف، بين القبول والرفض، بين الاستسلام لمشاعرها المكتومة واعترافها له بحبها وتعلقها به.
فجأة تحولت حياتها محفوفة بالأمل، مزدحمة بابتسامات تتسابق لتفترش شفاهها وعينيها، وأخذ كل شيء حولها طابعاً جديداً جميلاً.
الحب من يغير صنيع سنين القمع، والسجن، والنفي، الحب من يعطي للجماد روحاً تشع حيوية، ونشاطاً لا محدوداً.
ها هي الشمس قد ارتدت ثوبها البرتقالي معلنة استعدادها للرحيل، وإنهاء هذا اليوم، كانت غزالة في البيت لوحدها تجلس أمام الغرفة تحتسي الشاي، وتسمع أغنية لنجاة الصغيرة، ماذا أقول له إذا جاء يسألني…
عيناها ساهمتان بتلك الخيام المصطفة أمام بيتهم، وقد رمت شمس الغروب أشعتها البرتقالية على أسطحها، واضعة قبلتها الأخيرة، كقبلة أب رحيمة على جبين ولد مسافر.
صوت رسالة من الجوال الذي وضعته على الطاولة الصغيرة أمامها بقرب كأس الشاي، حملت الجوال فتحته، إنها رسالة من الأستاذ جاسم:
غزالة اشتقت لك، أنا متعب وبحاجة لك جداً. زلزلت كيانها كلماته التي حملت ما تعانيه هي، وتخشى البوح به، ودون أن تفكر راحت تكتب أناملها ما تشعر به: وأنا اشتقت إليك جداً، وأتمنى لو أراك.
كانت كلماتها المليئة بالحب، والشوق اعترافاً بحبها للأستاذ جاسم، الذي انتظره منها شهرين، برغم إحساسه به، إلا أنه كان يريده اعترافاً صريحاً بمبادلتها له نفس المشاعر.
ولشدة فرحه بما قالت، أرسل لها تسجيلاً صوتياً ولأول مرة، قال فيه: