ريمة خطاب | شبكة مراسلي ريف دمشق
حين سمع جاسم اسمه بين أسماء المعتقلين الذين سيُرَحَّلون إلى سجن عدرا صرخ فرحاً:
الحمد لله، وقبل أن يُكَبِّرَ معبراً عن سعادته، تذكّر أن التكبير يثير غضبهم ويستفزهم، فأغلق فمه بيده. في صباح اليوم التالي، وقبل أن يقوموا بالترحيل، اقترب جاسم من ماجد ليودعه، ويسأله إن كان يريد أن يُحَمِّله رسالة لأهله. ماجد ابن الجيران الذي وشى به تحت التعذيب وكان سبب اعتقاله، نظر جاسم لماجد الذي بانت علامات الموت على وجهه، فقد نهشه السقم من رأسه لأخمص قدميه. قال جاسم بعد أن لمعت في عينيه بوادر الغفران من قلبه الذي رقَّ لحاله التي يرثى لها: اسمع ياماجد، لقد كنت سبب اعتقالي، وتعرضي لكل هذا الوصب، أنا الآن خارج من هذا الجحيم، وأعلمك أني قد غفرت لك.
نظر ماجد بعينين منكسرتين، وقال:
سامحني، لقد اعترفت عليك لشدة الضرب، حتى أني اعترفت بأني قتلت ضابطاً، وأنت تعلم أني لم أحمل السلاح يوماً!، أريدك أن تخبر أهلي أن يبيعوا كل مانملك، ويخرجوني من هنا، لم أعد أحتمل رؤية الأموات حولي، إنني أموت ألف مرة حين أجبر على التبول على الجثث في الحمامات، أرجوك أوصل كلامي لأهلي. عانق جاسمٌ ماجداً وقد عرف أنه لن يقاوم حتى تصل رسالته لأهله، فقد امتصت جدران المعتقل روحه من مسامات جلده المتقرِّح. مرَّ جاسم بابن مختار حيِّهم، والذي علم بوجوده معه في الزنزانة الضيقة، بعد أن سمع صراخه وهو يتعرض للصعق بعِصِيِّ الكهرياء، وسأله ماذا يريد إرساله لأهله، فجاسم هو المبعوث حياً بعد الموت من معتقل الموت هذا!!. قال ابن المختار والذي لم تكسر شهامته قساوة التعذيب، برغم ما أخذت من جسده، وتركت في روحه حطاماً لا يرممه شيء أبداً: أبلغ أهلي سلامي وشوقي، وأخبرهم أني بخير، ثم عانقه بما بقي عنده من قوة، محمِّلاً إياه أشواقه الفياضة لأهله.
في صباح اليوم التالي، تم ترحيل المعتقلين، إلى سجن عدرا الذي خفَّت فيه وتيرة التعذيب، وبعد شهر أطلق القاضي سراحه لعدم ثبوت الاتهامات الموجهة إليه، وما ساعده على الخلاص من براثن وحوش النظام أنه اعتمد على جملته التي كررها في التحقيق المطول معه: (يا سيدي أنا وزني خمسين كيلو، البارودة أثقل مني)، فهل أستطيع بجسدي الهزيل هذا حمل السلاح وقتل أحد؟!.
خرج من سراديب الضياع والرعب، بعد أن حمل الأختام التي تخبر حواجزهم بأنه كان في ضيافتهم القاتلة، وصل جاسم لأول حيِّهم، وقف مصعوقاً بما وقعت عليه عيناه، لقد تحول الحي بأكمله إلى خرابةٍ نعق الغراب فيها، وأحالها لمقبرة دفنت فيها أشلاء سكانها الذي لم يسعفهم الوقت للفرار بأرواحهم، قال في سره:
- ياإلهي، موت في معتقلاتهم، وموت خارجها!!.
أين نعيش، نحن من أشعلنا شعلة ثورة الحرية؟!!.
وبأي وطن؟!!.
أين نعيش نحن من نعشق الحياة بعزة وكرامة؟!!