“أيها الملك إن الرجال لا تُكال بالقفزان”

0 820

علي العيسى | شبكة مراسلي ريف دمشق

قد أعيى ملكَ الحيرة بحثاً عنه، إذ كان يغير على القوافل، وقوافل الملك بالخصوص، ولم يتمكن أحد من القبض عليه، فقال النعمان بن المنذر ملك الحيرة وقتها، إذا جاء إليَّ وكف عن إغارته سأعطيه مئة من الإبل.

ضَمْرة بن ضمرة بن جابر بن قَطَن النَّهْشلي التميمي، وقيل اسمه شِق أو شِقّة بن ضمرة، لما قابل ملك الحِيرة النعمان بن المنذر، وكان قد وعد له بمئة من الإبل بعد أن لم يستطع أحد القبض عليه، فلما رآه اقتحمته عينه، وقال: «تسمع بالْمُعَيْدي خير من أن تراه»، فردّ عليه ضمرة رداً مُفحماً.
قال له ضمرة : أيها الملك إن الرجال لا تُكال بالقفزان ولا تُوزن بالميزان وليست بمسوك يُسْتَقى بها الماء وإنما المرءُ بأصْغَرَيْه قَلْبه ولِسانه إن قالَ قال ببيانٍ وإن صالَ صال بجنان.
فأُعجب المنذر بما سمع من منطقه، فسماه ضمرة باسم أَبِيهِ، وكان أَبُوهُ أثيراً عنده، وكان من رجالات بني تميم، ثُمَّ قال له: هَلْ عندك يا ضمرة بْن ضمرة علم بالأمور؟ 
قال: نعم أيها الملك، إني لأنقض منها المفتول، وأبرم المسحول، ثُمَّ أجيلها حَتَّى تجول، ثُمَّ أنظر إِلَى ما تؤول، وليس للأمور بصاحب من لم يكن له نظر فِي العواقب، فقال له الملك: صدقت.

هذا إنموذجاً من رجالات العرب التي صنعتهم الصحراء، فجعلت منهم رجالاً أذهلت حضارات الغرب والشرق مع أنهم لم يتميزوا بثياب فاخرة ولا عضلات مفتولة، بل حتى أنه كانت الأعين تنتقصهم من الشكل الخارجي والبنية الجسدية، لكن إذا تكلموا نطقت الفصاحة وحلَّ البيان، وفي المعارك لهم شأنٌ آخر خلدته قصائدهم ومغازيهم.

العربي يتميز عن غيره بشيئين قلبه ولسانه، فترى أنه له قلباً يزيد عن قلوب باقي أجناس البشر بأشياء، تملؤه الرأفة والرحمة لكن لما يُنتقص حقه أو يداس له على طرف ينزع قلبه بيديه حتى يأخذ بثأره، وكما أنه له لساناً فصيحاً يظهر حلاوة ذاك القلب في رأفته، وشجاعته عند ثأره، تخرج منه الحكمة والشعر اللذان يُطربان العقل ويأخذان به من جمالهما.

ومن الأمثلة التي تروى كذلك في هذا الحال، عن رجل اشتهرت أشعاره وقصته بحبه وعفته، حتى أصبحت تتناقل هذه الأشعار كل الألسن ويخطب بها في كل المجالس، دخل هذا الشاعر العاشق يوماً على عبد الملك بن مروان، فقال له الخليفة: من الأخ، فقال كثيّر عزة، فقال الخليفة: أأنت كثير عزة؟
قَالَ: نعم، قال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: يا أمير المؤمنين، كلٌّ عند محله رحب الفناء، شامخ البناء، عالي السَّناء، ثم أنشأ يَقول:

ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور 
ويعجبك الطرير إذا تراه فيخلف ظنك الرجل الطرير
بغاث الطير أطولها رقاباً ولم تطل البزاة ولا الصقور 
خشاش الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور 
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً وأصرمها اللواتي لا تزير
وقد عظم البعير بغير لبٍّ فلم يستغن بالعظم البعير
ينوخ ثم يضرب بالهواري فلا عرف لديه ولا نكير
يقوِّده الصبي بكل أرض وينحره عَلَى الترب الصغير
 فما عظم الرجال لهم بزين ولكن زينهم كرم وخير

فقَالَ عَبْد الملك: لله درُّه! ما أفصح لسانه، وأضبط جنانه، وأطول عنانه! والله إني لأظنّه كما وصف نفسه.

قد يعجبك ايضا