أ. منذر الخراساني | شبكة مراسلي ريف دمشق
لما كانت حياتنا اجتماعية وتندرج تحت أنظمة تعكس البيئة التي نتواجد بها – بدوية صحراوية ، قروية زراعية أو حضرية صناعية… – فلا يستطيع الفرد أن يعيش بمفرده متقوقعاً على ذاته ودائرته الخاصة ، لا سيما في هذا العصر ذي السماوات المفتوحة مع الارتباطات المعقدة والمتشابكة … لذا أصبح بحاجة ماسة للتغيير في أنماط سياساته وإدارته لتلك العلائق المركبة والمستجدات السيالة على مستوى الأسرة والدولة وتعاطي العلاقات بين الدول .
سأتحدث في هذا المقال عن مستويات السياسة التي نستطيع من خلالها إدارة تواصلاتنا في فضاءات حياتنا وسأشير لتوصيف إمكانات عمل “القائد السياسي” …
للسياسة ثلاثة مستويات
1- السياسة كـ “فن” أو ما يمكن تسميتها : السياسة العملية ( وتتصل بطبيعة إدارة المجتمعات وإقامة العلاقات بين الدول ) ، حيث تكون هنا للسياسة معانى متعددة ؛ هي ( فن الممكن ، أو فن تكثير الأصدقاء ، فن إدارة الصراع ، فن الكذب كما يسميها الإيرانيون في معاهدهم ، فن توزيع القوى ، فن تقليل الخسائر … ) . ولما كانت تقترب في هذا النوع من هموم الناس وآمالهم ، فإن الخوض فيها من قبل الجميع يجعلها مثار الجدالات والانتماءات والضجيج .
لو علم العامة أن إهدار الوقت والطاقات في هذا المستنقع ، إنما يصنع الانقسام ويزرع الكراهية بين أطياف الأمة الواحدة ، ولا يغير من طريقة إدارة الفاعل السياسي ، بل تريحه وتفيده .
لو علموا لكفوا عن ذلك .
في هذا المستوى يمكن التمييز بين درجتين ، تشتركان في وجه وتفترقان من أُخَر :
أ- التعامل مع أحداث سيالة ناتجة عن علاقات مستجدة ؛ ظاهرة حيناً ومتوقعة أحياناً ، فتكون بحاجة لتصرُّف ونباهة – حالّةٌ آنية أو ارتيادية استشرافية – هنا تكون شأناً دنيوياً (أنتم أعلم بشؤون دنياكم )
ب- الفعل السياسي الذي يتلازم مع تلك الوقائع المستجدة ، والفعل هنا نستطيع أن نصفه “بالأخلاقي أو غير الأخلاقي” ، مستصحبين معنا في تقييمه ، معايير القيم الكبرى والمبادئ الضابطة دينياً وإنسانياً وحضارياً ، ولأن الأحداث غير متناهية في هذا الباب ، فإنه لا توجد نصوص دينية محددة تأمره بالفعل أو الترك ، لذلك يندرج الحكم في تلك الأفعال تحت مصادر ( المصالح المرسلة والاستحسان والعرف)
2- السياسة كـ “علم” ، وهذا يؤخذ في الدراسات العلمية والأكاديمية ، كمعرفة أشكال الدول ، وتقسيمات النظم السياسية ، وكيفية إنشاء الأحزاب والمنظمات …..
3- السياسة كـ “فكر” ، وهنا يأتي دور أصحاب التحليل والتشخيص والنقد والتقييم ، لما هو قائم .
يدخل في هذا النوع عدة شرائح :
أ- من يرسمون “السياسات والمشاريع الاستراتيجية” للدولة ، هؤلاء هم المتخصصون في علم الاجتماع السياسي أو رواد مراكز البحث ومعاهد الدراسات من كافة المجالات .
ب – الكُتَّاب في مجال الصحافة والإعلام ( ابتداءً بالناشطين العاديين مروراً بالمُمْتَهنين الذين ينخرطون في هذا المجال طلباً للرزق أو خدمة لتوجهات حزبية وسياسية ، وانتهاءً بأهل الفكر السياسي – مؤطرين كانوا أو مستقلين – )
ج – الفلاسفة والمفكرون الذين يقضون جل وقتهم في إنتاج المفاهيم وتأسيس النظريات السياسية التي تحتاج لها الأمم ، على مستوى الدولة أو العالم ، كما يساهمون في وضع الحلول للمعضلات والمشاكل التي تحدث للمجتمعات جراء التطبيقات والتحولات المستمرة
( يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور ) .
حيث يفعلون هذا وفق منهجيات منضبطة ومرجعيات متنوعة ( دينية وثقافية وأخلاقية وإنسانية واقتصادية …. ) .
و”الفاعل السياسي” ينطلق من مركزية الواقع ويعتمد على موازنة المصالح بحسب الإمكانات المتاحة ، لكن الفعل السياسي – كسلوك إنساني – لا بد أن ينضبط تحت معايير مهنية وأخلاقية حتى نستطيع تقييم أداء الفاعل السياسي ، هذه المعايير تتدرج من أدنى دركات الانتهازية والنفعية ذات العقلية الاحتيازية ، مروراً بالموازنة بين المصالح المستجلبة والخسائر المتوقعة ، وصولاً إلى أعلى درجات الأخلاقية والنظرة الاتمانية كما يسميها الفيلسوف طه عبدالرحمن حفظه الله .
تطول فترة التيه والفوضى والصراع في بعض البلدان عن غيرها لأسباب كثيرة منها :
1 – إذا كان الاقتتال الداخلي ارتزاقاً وتنفيذاً “لاستراتيجيات” خارجية ، حينها تكون النتيجة الماثلة ظاهرة في تدمير الداخل وسقوط أركان البلد وانهزام الجميع ، أما الانتصار فهو حليف الخارج .
2 – التعامل مع المجال السياسي ، بإحدى نظرتين :
أ- البعد العقائدي بما يحمله من إرث مذهبي وتقسيم طائفي ، حيث يتم استدعاء جذوة الخلاف والتناجش من تراكم تاريخ قد مضى فيبقى حاكماً ومهيمناً على الحاضر الراهن .
ب- التصور “الأيدولوجي” التي تقوده أفكار التميز وفرادة النظريات ( يسارية أو يمينية ، اشتراكية أو رأسمالية ، إسلامية أو غير إسلامية … ) ، وهنا يكون الباعث للشقاق والاحتراب ، ما تم تدوينه من نظريات صراع الطبقات والحضارات “والجيوبوليتيك” – الجغرافيا السياسية –
3- اعتبار المنصب السياسي ، تركةً تم توارثها عن الآباء والأجداد ، أو استحقاق وتملك ، ساعد في الوصول إليه ( الحظ ، التقاسم ، حماية الآخرين …. ) ، دون أن تكون هناك كفاءة واقتدار يستطيع من خلالها السياسي رؤية نفسه أنه موظف كأجير و وكيل عن الأمة ، لا سيد يستعبدها ويقودها للحتوف كالقطيع ، بظلفها وهواه وعجبه .