الحسين الشهيد يطلب الخبز والماء… والحرية والانتقال السياسي !

0 687

كتب المحامي زهير مارديني عبر حسابه على فيسبوك مقالاً يجسّد فيه علاقة الحاكم بالمحكوم على مر العصور وأهمية الحرية الفكرية لجميع الأفراد في الحفاظ على الوعي والخروج من حالة إكراه السلطة للمحكوم، مبيّناً ذلك من خلال ثورة الإمام الحسين بن علي كرم الله وجهه التي تهدف إلى بناء القيم الإنسانية النبيلة، كما نبّه لأهمية النظر من زاوية القيم الساعية للصالح العام…

مقال رأي: زهير مارديني

إن المتأمل للتصادمات التاريخية الفارقة في مسيرة حياة الشعوب لابد أن يَلحظ أحد أهم مُسبباتها وهي مسألة العلاقة بين الحاكم والمحكوم , إنها طبيعة العلاقة المُشكلة بين البشر على مر العصور فإن تراكم المَظالم الكمّية للسلطة المستبدة لابد أن يتجسّد بتغيير كيفي بوعي الناس كحدٍ أدنى أو بتغيير “العقد الاجتماعي” بين الحاكم والمحكوم والخروج من حالة إكراه السلطة المُستبدة لمحكوميها مع ما يلازم ذلك من دفع أثمان باهظة أو استيعاب حركة التاريخ والوصول إلى حلول بالتفاوض , إنه الديالكتيك التاريخي- الاجتماعي العصيّ على استيعاب منظومة الإكراه و الذي لا يسعه التعامل معه إلا بمنطق نفي المُخالف من الوجود , الوجود بأسمى معانيه الإنسانية فلا رأي يُسمح بتداوله خارج “كود مفاهيم جبرية” منظومة الإكراه , وهنا يؤَكد المؤكد بنفيه للحرية اللصيقة بالنفس البشرية التي استعدتها طوية المُستبد ورأت فيها شراً مطلقاً يهدد مكاسبها ووجودها. وإن الوعي الحقيقي بأسباب ما سبق والتأمل فيها بموضوعية سيريك غاية منعك من ممارسة الحرية التي تدفعك للبحث والشك والنقاش والجدال وأن تعبر عن رأيك وتمارس حياتك كإنسان وأن تختار نظامك السياسي وحاكمك وطريقة الحكم وتمارس الرقابة على السلطات دون أن يباغتك صاحب العَسس باعتقال أو منع مصدر رزق أو حتى قصفٍ يخرّ له سقف البيت على رؤوس الآمنين من النساء والأطفال .إذن الجليّ عن البيان أن هذه المرحلة الإنسانية ليست مقيدة بزمان ومكان معينين بقدر ارتباطها بنفس الإنسان النزّاعة نحو غاية حريتها بعيش كريم يؤمّن لها الاعتراف بآدميتها ضمن مجتمع تشارك بوضع قوانينه بالسبل المُتفق عليها.ولعل مثال الثورات الأبرز من التاريخ العربي -الإسلامي هي ثورة الإمام الحسين بن علي كرّم الله وجهه و التي “بدأت” باستشهاده بواقعة كربلاء عام 61 هجري ولمّا تنتهي بعد, فما زالت الأمة وما تفرّع عنها من شعوب تدأب سعياً لغاياته التي قضى لأجلها , فلم يكن الحسين طيّب الله ثراه طالب خلافةٍ أو مال ولم يكن يملك صفات جسدية وروحية ماورائية تزيد عن ما يملكه بقية البشر كما لم يُسمه الله خليفةً فرضاً على البشرية بعد أن تمت رسالة الإسلام حيث تم بيان حرية الإنسان في الاختيار بجلِّ أمره وقُرِن ذلك بالمسؤولية مع ختم التنزيل وبيان القيود وإطلاق الأمر أمام المباحات والتي تعد مسألة إدارة شؤون الناس بعنوانها العريض ضمن نطاقها وفي ذلك تفصيل ورحمة بالخلق وموائمةً لتطور المجتمعات البشرية , ولهذا فإن ما ميّز ثورة الحسين رضي الله عنه أنه قد تضلّع من روح القيم الإنسانية الإسلامية التي تُنزل الإنسان مكانته ككائن واعي مُدرك لتصرفاته و بفطرته السعي نحو الخروج على أي منظومة إكراه وبالضرورة مُعارضة أي حاكم ينفي حرية الإنسان في الاختيار, وإن أسوء الأفهام لذلك الحدث التاريخي الفاصل والمهم هي تلك الطويات السياسية- الإيديولوجية التي تشرّع الحكم الجبري وتجعل منه ثيوقراطياً معادياً للمُخالف حد التصادم باستخدامها ديماغوجية تحرّف القيم التي تضلّع منها الحسين عن مقاصدها السامية المُكرّمة لمقام الإنسان .قال الحسين طيّب الله ذكره:«إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين». انتهى .فقد كان الباعث والعنوان العريض لثورة حفيد رسول الله (ص) طلباً للإصلاح في الأمة التي جُنح بها نحو الإكراه في ولاية أمرها بالسيف الذي علا على مبدأ الشورى الذي يتلاقى في نقاط كثيرة مع مفهوم الديمقراطية المعاصر ويحقق الغاية بمنع تصادم المحكومين على السلطة أو بسببها , بمعنى آخر تم نفي الرشد من الأمة وساد الغيّ ببداية عهد الاستبداد بازدراء المحكومين ,ولعل التعيّن الأهم لهذه القيم المبيّنة لقيمة الإنسان وضرورة إقامة شِرعة جماعية تُعلي شأن العقل والتشاور في حل مشكلات المجتمع فقد كان في (وثيقة المدينة) التي أقُرت بين فرقاء المدينة بما يزيد عن خمسين مادة مكتوبة احتوتها صفحات العهد وذلك بعد الهجرة النبوية حيث كانت أشبه بدستور وعقد اجتماعي وفق مفهومنا المعاصر, أما من حيث التجارب الحضارية القريبة لها زمانياً ومكانياً كانت بلاد فارس تُحكم “بعهد أردشير الساساني” الذي يُنزل الحاكم مقام الإله الذي يتحالف مع مراكز القوة في المجتمع وعلى رأسهم رجال الدين أما المحكومين فهم عبيد دونه ولعل آثارعهد أردشير مازالت ملموسة حتى اليوم في تلك المنطقة من العالم. أما مقاصدية الشورى التي أدت لوجود وثيقة المدينة التي احتوت على قيم التكافل الاجتماعي والعيش والدفاع المشترك وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية والتي هي من أهم النقاط الغير ذات اهتمام من الوعي الشعبي المعاصر والذي يفضّل سَماع مرويات أمجاد رعايا وقادة دولة الإسلام بالفتوحات العسكرية , حيث أن هذا الفهم المحدود يعزز بشكل أو بآخر عقلية التغلّب على المخالف بالقوة وفرض نمط سلوكي مجتمعي واعتقادي واحد لنعود نكوصاً إلى فكر التغلّب. رغم أهمية “شعبنة” هذه المفاهيم فإنها بقيت حبيسة أدراج البحث الأكاديمي النظري لصعوبة طرحها ولعدم وجود الراغب بالاستماع لها في غالب الأحيان فضلاً عن البيئة السياسية المُزرية التي تعيشها البلدان العربية, وإن تخصيب الوعي العام بمفاهيم العيش المشترك وقبول اختلاف الآخر بلغة معاصرة تعزز ثقافة دولة الاحتكام إلى القانون وإسقاطه على الواقع بمفاهيم اليوم يعد نقلة فكرية لابد من حضورها في عامة المجتمع العربي-الإسلامي لكي لا يقتصر التغيير القادم على تبادل الدور على قيادة منظومة الإكراه .-إن النظر من زاوية القيم الساعية للصالح العام البعيدة عن صَنمية إيديولوجيا السلطة النافية للآخر والمُتخذة الإكراه منهجاً عملياً يجعلنا ننظر إلى الأشخاص بمعيار التزامهم بالقيم وتحقيق النفع العام للناس واحترام حرية التفكير والاعتقاد والوصول إلى عقد اجتماعي جديد كبديل عن إقصاء المخالف ونفي وجوده بكافة السبل طمعاً بتحقيق المصالح الفردية-الفئوية الضيّقة , عندها ستتجسد القيم الإنسانية الإسلامية التي تضلّع منها الحسين في سلوكنا السمح مع المخالف و سنرى وجه الحسين في ثنايا وجه كل أمّ تنتظرعودة ولدها المُغيّب وسنرى القيم في بسالة وجوه الفدائيين الذين اندفعوا لإنقاذ الناس من بغتة شر ألمّت بهم , وسنرى مُحيا الحسين حفيد رسول الله في بسمات حزن وجوه الأيتام في المخيمات وفي دمعات ونحيب كل إنسان فقد عزيزاً وفي أنّات المجروحات اللائي اعُتدي عليهنّ بجناية أتباع فكر منظومة الإكراه , وفي صلابة صفحات وجه كل رجلٍ أبيٍّ مُحاصرٍ يرفض أن يتخلى عن كُنهه كإنسان متشبثاً بحريته بوصفها أمانة الله التي أودعها فيه .هذا رأيي إلى مَبلغ علمي في ساعته , ولا أحمل أحداً عليه من الناس .المـحامي زهيـــر المارديـــني- فرنسا 1443 هجري

قد يعجبك ايضا